Sonntag, 19. Juni 2011

عالم باتريك سوزكتد

إطلالة على عالم باتريك زوسكند



المتحذلقون يقتلون العالم

في "وصية المعلم موسارد" يتوفى جواهري بلاط كونت اورليان حسب سوزكند في ٣٠ آب  ١۷٥٣ في السادسة والستين من عمره.  وفي يوم دفنه تماما يولد قاتل.  يقتل غرينوي، ابن الخامسة عشر، "صبية البرقوق" في شارع دي ماريه.  هل يتابع سوزكند الموت بالقتل؟ من هذا نستنتج العلاقة الوثيقة بين وصية المعلم موسارد والعطر. العملان يسردان بلغة كثيفة، مسبوكة في قوالب فخمة، تشير إلى نهاية عالم، يرنو إليها "بطلان" انعزاليان، يسيطر عليهما الخوف والهلع من العالم خارج ذاتيهما. عالم عدائي، لا يعرف الرحمة ويدمر كل ما فيه من كائنات.
يموت المعلم موسارد لأنه اكتشف بالصُدفة "حقيقة مبدأ ومجرى ومنتهى حياتنا، دنيانا، كوننا بأجمعه"، هذه الحقيقة التي يكشفها لنا في وصيته. "فكرت سنين وسنين. أحكمت علي صومعتي وأرهقت عقلي"، هذا بعد أن يقوم بأبحاث "عميقة" حول مبدأ العالم ومرده: "التصدُّف مبدأ جامع لا تخضع له هيئة الأرض الظاهرية وحدها، بل وأيضا كل الحيوات الأرضية، كل شيئ وكائن على الأرض، بل وفي الكون أجمع". يتكلس جسد "العالِم" ومعه تتكلس الحياة في عينيه. الجماد الروحي، العقلي، يتقدم، الثابت يقضي على المتحرك، والأرض تتحور إلى كوكب من الصَدَف. أو ربما هذا ما ينويه، يتمناه "بطل" القصة. إذا كان في مكان القلب حجرة، صَدَفة، فإن المجال الحيوي للإنسان سيتصحر بدوره ويغدو يبابا.

في العطر نجد "العالِم" الماركيز  تاياد اسبيناس، الذي "أدار ظهره للحياة في الأربعين من عمره" يفيض عليه بدوره عرفان لم يحل من قبل على أحد. فيزعم أن الأرض تبعث "غاز عفن" يطلق عليه اسم "محفِّز الموات"، لن ينجو الإنسان من هلاكه إلا بأن يعلو فوق في السماء، بعيدا عن الأرض. "ولهذا تسعى جميع الكائنات الحية للابتعاد عن الأرض، أي تنمو مبتعدة عنها ولا تنمو فيها ولهذا فهي ترفع أسمى أجزائها في جهة السماء". وهذا الهلع، هذا الخوف، يدفعه ليصعد إلى ذروة بيك دي كانيغو التي تعلو ٢٨٠٠ مترا عن سطح الأرض، حيث يتعرى في صقيع كانون الأول/سبتمبر ١۷٦٤. يفقد الماركيز الرشد والحياة في الأعالي. والمعلم موسارد يفقدهما، لأنه على العكس من صاحبه، يغور عميقا في الأرض. إنهما وجهان لعملة واحدة والاثنان واثقان جدا من علومهما وحداثتهما. فالمعلم يحسب نفسه ضمن صفوة فلاسفة عصره، ويعتبر فولتير، ديدرو وروسو في حلقة أصدقائه. وعلومه توصله لنتيجة حتمية: السعادة الحقيقية هي الجهل. "الجهل ليس عارا، بل إنه سعادة لأغلب الناس بيننا. والحق إنه السعادة الوحيدة الممكنة في هذا العالم. لا تتخل عنه طائشا". والماركيز في رواية العطر يؤسس "محفل المحفّز الحيوي" الذي يفتتح فروعا له في مرسيليا وليون. هل يريد منا سوزكند أن نعتبر بـ"العلماء" فاقدي القلب والعقل؟ الذين لا يخفي سخريته منهم.

المحبطون والانعزاليون



على النقيض من هؤلاء العلماء نرى الكائن الغريزي، "بطل" رواية العطر، الكائن الذي لم يدنو من العلم قط، والإنسان المنعزل، الذي يشكل بدوره صورة عن ملاك الموت في ثياب أخرى. هل هم ملائكة الموت، لأنهم لا يقدرون تعددية الإنسان والعالم ويختزلونها في ظاهرة تمسك بتلابيب عقولهم الباردة؟
نشرت قصة "وصية المعلم موسارد" في "الصفحات الألمانية الجديدة" neuen deutschen Hefte ولم يتجاوز قرائها حلقة قراء هذه الصفحات. بينما سينسحر العالم بعدها بخمسة أعوام بعازف "الكونتراباص" الذي كتب للمسرح عام ١٩٨٠ ونشر لأول مرة في كتاب عام ١٩٨٤. عرض الكونتراباص للمرة الأولى في ٢٢ أيلول/ سبتمبر ١٩٨١ على مسرح كوفيليه Cuvillies في ميونيخ ولم تتوقف عروضه في جميع أنحاء العالم مذاك. هذه المسرحية، المونولوج، مسرحية الممثل الواحد، ليست إلا غضب عازف كونتراباص منعزل في غرفة صغيرة على عالم يريد الابتعاد عنه، إقصاءه من وجوده، بحيث يلبّس جدران غرفته بكاتم للصوت. كم من الوحدة والعزلة يحتاج الإنسان في عالم سوزكند، حتى ينفجر في وجه العالم فيدمره، أو ينسحب منه فلا يأبه به هذا العالم؟
سوزكند ذاته إنسان منعزل، لا يعرفه الناس إلا نادرا، لم تظهر له صورة منذ الثمانينات. لم يجر إلا عددا قليلا جدا من اللقاءات مع الصحافة العالمية. قبل عرض مسرحيته يسمح الكاتب ابن الثانية والثلاثين عاما بإجراء لقاء مع صحيفة "آبند تسايتونغ" في ميونيخ. وفي هذا اللقاء يصف عازف الكونتراباص: "إنه على علاقة طفيلية مع آلته ويحملها مسؤولية عجزه في إقامة العلاقات مع البشر. الآلة هي السبب في كل شيء: إنه معزول عن عالمه، إن المغنية لا تنتبه له. لكن علينا ألا ننسى أن المسرحية كوميدية". هل هذا الفرد المنعزل، الذي يسخر من نفسه، من زملائه ومن آلته الموسيقية، دون أن يقصد سخرية، نفس ذلك المصاب بمرض التصدف، الذي "اكتشفه" المعلم موسارد من قبل وأصيب به كل عالمه؟ "أبطال" سوزكند يبحثون عن الحنان، عن الدفء، في العزلة، بعيدا عن الإنسان أو يعتزلون الإنسان، يمرون في الحياة دون أن يتركوا أثرا يذكر. المجهول مرعب. الأمكنة المعهودة وحدها تعطي شعورا باردا بالأمان والسعادة. سعادة الوحدة والإقصاء.

عبادة الشخصية

في وصية المعلم موسارد يصور لنا سوزكند نهاية العالم المأساوية على لسان "متعالم" بـ"مصطلحات علمية" يبتدعها لنفسه. في قصة "الصراع" يصور لنا سوزكند على العكس، "بطلا" صامتا، يسحر البشر ويدمر عوالمهم. وهو بهذا يدعم الرأي القائل بالتفسير السياسي لرواية العطر. عنوان القصة القصيرة يحيل مباشرة على عنوان كتاب هتلر (كفاحي) وآرائه التي سنجد ضحية لها في قصة الحمامة.
في قصة "الصراع"، يكتب سوزكند عن مباراة شطرنج "بريئة" في حديقة باريسية. لاعبوها بطل الحي الشعبي المحلي وشاب حماسي مجهول الهوية، مر صدفة بالحديقة ليوقظ رغبات النظارة، الجماهير الغفيرة كما سيخرج من حياتهم بعد أن يدمر عالمهم المحتقن برغبات بريئة بحد ذاتها، رغبات الإنسان "العادي". ترغب الجمهرة في انتصار ساحق للشاب الساحر، الغريب، على البطل المحلي وتشجعه، تحبس أنفاسها عند كل نقلة من نقلاته "الجريئة"، ولو أنهم لا يفهمون لها معنى، لأنهم هم لا يجرأون ولن يجرأوا على هكذا نقلات: "تمتد يد الشاب على الرقعة كالصقر، تتناول الملكة وتنقلها ... لا، إنه لا يتراجع جبنا، كما كنا سنفعل نحن، بل ينقلها خانة واحدة نحو اليمين. مستحيل!". "جان"، البطل المحلي "هذا الرجل الضئيل القبيح، الذي يبلغ من العمر السبعين عاما نقيض منافسه تماما من جميع النواحي"، يتغلب على الجميع والجميع يرغب في إسقاطه عن عرشه. إنه صراع جنوني، ما يقوم به الشاب، لكنه صراع مفعم بالحركة والحيوية، شجاع وجميل. " تدمع عيونهم وترق قلوبهم. إنه يلعب كما يشتهون أن يلعبوا ولا يجرأون قط على اللعب. هم لا يفهمون لماذا يلعب كما يلعب، كما أنهم لا يبالون بالسبب". "إنه بطلهم وهم يحبونه". وفي النهاية يخسر الشاب المغرور وينسحب من الحديقة دون أن يعير الجمهرة أدني اهتمام: "بعد أن ينقر الشاب الملك برأس اصبعه محتقرا، ينهض، لا يشرِّف لا خصمه ولا جمهوره بنظرة، لا يحيي ويذهب". الصراع، قصة تتطرق إلى موضوع الجماهير والبطل. ونشأت في حقل رواية العطر ولهذا تمكّن من قراءة العطر ذاتها قراءة سياسية. على كل حال، فإن كل مؤلفات زوسكند تدور في فلك العطر.

مأساة الإنسان الكبرى

قصة "بحثا عن العمق" ١٩٨٦ تصور فنانة شابة تنتحر، بعد أن "تتعفن" في عزلتها إثر نقد، قد يكون بريئا بدوره، يدلي به ناقد في أولى معارضها: "لكن عندك القليل جدا من العمق". وفي بحثها عن العمق، تمضي إلى مكان يعلو ١٣٩ مترا عن سطح الأرض وتلقي بنفسها إلى عمق الموت. لكننا أيضا نعرف الدور الذي قد يلعبه ناقد "متعالم". هنا يسخر سوزكند من الاثنين معا. من الفنان/الضحية الذي لا يفهم المعنى الحقيقي للعمق ومن الناقد الذي يدمر حياة الفنان بملاحظات يدلي بها دون أن يقدر لها أثرا. 
أبطال سوزكند كلهم يبحثون عن العمق وذلك بأن يصعدوا القمم. فالفنانة في "بحثا عن العمق" تعتزل البشر، ثم تصعد برجا لتنتحر في الأعماق وتجد خلاصها بعيدا عن البشر. غرينوي في العطر يصعد إلى ذروة الجبل في كهف مظلم ليجد أخيرا عالمه، عمقه الذي يشتهيه. عازف الكونتراباص ينوي الصراخ باسم حبيبته في حفلة موسيقية تحضرها صفوة المجتمع ليبرهن على عمق حبه. المعلم موسارد ينقب في أعماق الأرض ليبرهن على عمق نظرياته وينتهي إلى هذه الأعماق متحجرا والماركيز تاياد اسبيناس يصعد بدروه إلى القمة العالية ليفنى ويغدو أسطورة. وقد نفهم من الحمامة عشق جوناثان لغرفته الصغيرة الحميمة من هذا الباب.

الحمامة



"الحمامة" هي قصة طويلة ظهرت بمطلع عام ١٩٨۷. رجل تجاوز الخمسين يعيش حياته "الهادئة" بعيدا عن كل ما يجري من حوله ويأمل بحياة المتقاعد الهانئة: "فهو يمقت الأحداث، ويمقت منها خصوصا تلك التي تزلزل التوازن الداخلي وتخل بنسق الحياة الخارجية". في صباح أحد أيام آب/أغسطس عام ١٩٨٤ تقوض حمامة، هذا الكائن "المروع"، أساسات حياته الراسخة في غرفة صغيرة في الطابق السادس من بناية في باريس. وهذه الغرفة الصغيرة هي معشوقته في عالم عدائي، معشوقته التي تواسيه في اغترابه، تحنو عليه إذا جاع وتخفيه عن العيون إذا لمحته العيون: "فقد كانت وظلت الجزيرة الآمنة في العالم المضطرب، ظلت حصنه المنيع، حبيبته، نعم حبيبته، فقد كانت صومعته الصغيرة تحيط به رقيقة ... ترعاه إذا احتاجها ولم تهجره قط". الكائن اليهودي المصدوم في طفولته بالنازية التي أفقدته أمه وأبيه، يصطدم فجأة بكائن يغير له كل حياته التي تتكون من الرتابة والملل، فيريد الهرب إلى مكان أكثر أمانا. إنه قبل هربه "يتمرد" على العالم، يشتم البشر "التافهين" فيه: " رمى جوناثان غطاء صدأ حقده الكريه على كل ما تقع أنظاره عليه ... لو أنه يعبر الشارع ركضا إلى ناحيتهم ويجرهم من آذانهم .. ويصفعهم على الشارع". ويجد مهربا له في غرفة حقيرة في أرخص فنادق باريس، غرفة في قبو، في مكان عميق، تقيه شرور العالم.  ثم تقيه "كارثة" طبيعية من الحضيض، من الانتحار: "غدا أقتل نفسي". جوناثان، يتمرد على "أبطال" زوسكند الآخرين كلهم. توقظه "كارثة"، انفجار يذكره بنهاية العالم، من خوفه وعزلته، فيعود إلى "حياته" ويغتسل بقطرات المطر.
هذا الخلاص غير معهود من سوزكند. إنه لا يمضي بجوناثان إلى النهاية القصوى، التي يمضي إليها جيمع أبطاله. جوناثان، الذي يريد فجأة التمرد على واقع الحال ويتخلص من خوفه من الحمامة، يتحداها، قد يكون أضعف أبطال سوزكند. لكننا لا نعلم مع هذا إن كانت حياة جوناثان ستتغير جذريا.

العطر، قصة قاتل



في ١٦ تشرين الأول/ اكتوبر عام ١٩٨٤ بدأ نشر "العطر" على صفحات فرانكفورته آلغماينه تسايتونغ. مطلع  العام التالي نشرت الرواية في كتاب واقتحمت الأسواق الأدبية وحققت لذلك حلم سوزكند أن يغدو غنيا بكتابة الرواية.

كإله غاضب ينقض غرينوي على الكون الهادئ، الرتيب. إله أيقظته "كارثة" من لاوجوده. في غيابة كهف على أعلى قمة في فرنسا "يكتشف" غرينوي فجأة أن لا رائحة له.
عندما ينعزل عن العالم، ليعيش وحدته: "يستنكف لأجل ذاته، استنكف ليدنو من ذاته. سبح في كينونته الذاتية، التي لا يعكر صفوها شيء بعد". يبدأ غرينوي بخلق الملكوت العطري، الذي لا مشيئة فيه إلا مشيئته هو وحده من غمر البدء: "وعندما رأى أنه حسن وأن الأرض جميعا تشرّبت بغرينويته الألوهية، نزّل مطرا من روح النبيذ، رقيقا ومدرارا، وكان زرع وكان خَضار وكانت غلال تفرح القلب. صارت الجنان غناء واغرورقت أعذاق البساتين الخفية بالرحيق وانفلقت التويجات عن براعم الزهر". إنه يقيم مأدبة ماجنة للروائح سيقدم صحافها إلى البشر في مدينة "غراس"، قبل أن يدخل درب الفناء من جديد، بعد أن يدرك أنه لا يحيا بالحب، إنما المقت ماؤه وترابه ورائحته. ذلك بعد أن كافح، صارع، ليجني الاعتراف، الحب. فقطرة واحدة من عصارة روائح صبايا جميلات، قتلهن واحدة بعد الأخرى، تكفي ليقلب عالم البشر المكروهين، لكنها لن تقلب عالم غرينوي الداخلي. ربما يبغي الكاتب أن يذكرنا هنا بالقراءة السياسية لرواية العطر، بالجماهير الحاشدة التي "آمنت" بهتلر وسجدت له، كما تركع الجماهير عادة أمام من تتصور فيه مخلصا.
في القذارة، النتن، العدم، يولد غرينوي إلها غاضبا لا يتمسك بالحياة إلا ليغيظ البشر، وإلى هذا العدم يعود لينتهي، ليفنى إلها محبوبا، يلتهمه البشر بحب. البشر الذين لم يعرفوا الحب يفعلون لأول مرة شيئا بحب، يأكلون جسد إلههم ويشربون دمه، فيشرق عليهم النور، حتى ليخجلوا من النظر في عيون بعضهم البعض: "فقد ارتفعت في نفوسهم الكالحة فجأة روح عالية، وعلى وجوههم ظهر بريق صبياني من السعادة. وربما لهذا خجلوا من رفع أنظارهم والنظر في الآخرين". هل سيصبحون حواريين له؟
العلاقة الجدلية بين كره البشر والرغبة العميقة في اكتساب حبهم، تولد تناقضا حادا في النفس، تناقضا لا يجد له حلا، ولهذا يغدو غرينوي أكثر عدوانية، سادية ومازوخية. فهو من جهة يتقبل كل الأذى والاحتقار الذي يتعرض له، كل العذاب والمهانةـ ليس فقط في الطفولة. لكنه من جهة أخرى يعلم ما لا يعلمه الآخرون، فيحتقرهم ويتلاعب بمشاعرهم بعد أن يمتلك ناصية العطور. يستسلم للمعلم بالديني بكل ذلة، يضع نفسه بين يدي الماركيز ليتباهى به وهو يعلم أن الماركيز مدع جاهل. ثم إنه يقتل نفسه. مرة في الكهف على القمة ومرة في المقبرة. إنه إذن ينتقم بذلك من نفسه بقدر انتقامه من البشر، سواء أحبوه أم خافوا منه.
ربما أراد سوزكند أن يعبر لنا عن هذه العلاقة الجدلية، المتضادة في هذا الكائن الغاضب، المقهور، المحتقَر والمحتقِر من خلال اسمه. جان بابتيست غرينوي. غرينوي، معناها الضفدع، الكائن المحاط بالمخاط، القذر، المستكره. جان بابتيست: يوحنا المعمدان، المطهر. قد يكون "الضفدع" إلها أسود من العالم السفلي وقد يكون "المعمدان" إلها من جبال الاولمب أنجبته أمزجة الآلهة الملولة ولهذا سيبقى غريبا على المكان وقاطنية، على الأرض والبشر. لهذا سيبقى غريبا هلعا، غريبا ناقما، لا يلحظه أحد، لأنه ليس له رائحة. وعلى هذا سينتقم من البشر شر نقمة. هذا البغض الشامل وهذه الرغبة الشاملة في إعادة ترتيب الكون، يتأتيان من كونه غير راض عن نفسه، من كونه يكره هذه النفس ـ العدم، كما يتأتيان من تصارع الأضداد في هذه النفس الواحدة. فهل يبحث غرينوي عن ذاته؟ بالإيجاب يرد سوزكند على هذا السؤال في أكثر من مكان. إن غرينوي ليس حِرَفيا تعلم المهنة على غرار معلمه العطار بالديني، بل روحه ـ إن كانت له روح ـ هي أساس فن العطارة، الذي يخزنه في ذاته بصيغة الآلاف، مئات الآلاف من المركبات العطرية. وهو لا يبغي إلا أن يعبر عما يجول من صراع في داخله "الذي يعتبره أروع من كل ما يقدمه العالم الخارجي". والخوف، خوفه من أن لا يستطيع التعبير عن هذا العالم، هو ما يدفعه بالتالي إلى القتل. إنه عندما "يعرف" حقيقة ذاته يفر من كهفه ـ القبر، لينطلق في عالم الجريمة لينال عقابه. ربما لم يعتبر قتل "صبية البرقوق" جريمة، فهو لم يرتكب جريمة، إنما اختزن أجمل ما في الصبية، اختزن عطرها، وبالتالي خلدها. هكذا سيفكر لاحقا عندما يقتل الأخريات، لكنه آنذاك يعلم أنه يقتل عن عمد، أنه مجرم.

السخرية السوداء

بقدر ما هو هلع، فإن غرينوي يخيف العالم بأسره. علي وعلى أعدائي. فبعد قتل الفتاة الثالثة نقرأ "سرى الخوف في الأرض". "الوباء الشيطاني"، مترادفات كهذه تتكرر كثيرا في النص، لتدل على الخوف. الخوف المتأتي من الجهل ـ أو من شبه العلم! كما في "وصية المعلم موسارد" وفي "الحمامة". فما أن يعود الخوف من جديد حتى نرى الناس على مختلف مشاربهم يسيرون في مواكب. المؤمنون يلجؤون إلى الكنيسة، عبدة الشيطان يلجؤون إلى مغاراتهم، والمؤمنون بالتنويم المغناطيسي يقيمون محافلهم. التنويم المغناطيسي الذي اعتبر مع مطلع عصر التنوير، الذي تجري فيه الأحداث، علما حديثا. إن اللقطات الساخرة بالعلوم "الحديثة" تمر خلال الرواية منذ مطلع تكوين عالمها حتى آخرها. تبدأ السخرية مع المربية التي تدعي أنها تعرف الكراميللا بالرواية، مع الأب ترير الذي يتصور أن علومه تكفيه ليعرف إن كان الطفل مسكونا بالشيطان أم لا. لتصل إلى المعلم بالديني، نصير التقليد والنقل، الذي لم ينجح قط في ابتداع عطر خاص به ويصب أحقاد فشله على العلوم الحديثة، يشتم ديدرو وفولتير وروسو، يكره تحرير النساء والكهرباء ويكره العطارين الشباب الذين يختلقون كل يوم عطرا جديدا، فلم يبقوا له من زبائن إلا عدة ماركيزات مترهلات. لنتذكر هنا عازف "الكونتراباص" الذي لا يكف عن التذمر. ثم الماركيز تاياد اسبيناس، العالم المهرج، وأبحاثه العجيبة عن "الزهرة الضرعية" و"اقتصاد الأمة الحركي" و"غاز الموات" وبهذا العالم ذاته ترحب كبريات الجامعات وهيئاتها التدريسية. هو الذي يكاد يتصور نفسه خالقا ـ على غرار غرينوي ربما!: "كنتم حيوانا فجعلت منكم إنسانا. إنه صنيع إلهي". ينتقم سوزكند من هذا "المتعالم" ويقتله، كما يقتل المعلم بالديني. لكنه لن يكون سوزكند إذا توقف عند هذا الحد. إنه يواصل سخريته اللاذعة حتى الحد الأقصى. فمع مقتل الماركيز تلد "نظرية علمية" لها أنصارها: "دافعت بعض الكراسي الجامعية المتخصصة في الطب عن نظرية المحفز الحيوي حتى أواخر القرن التاسع عشر ... ومازالت على طرفي البيرينيه [حتى يومنا هذا] .. بعض محافل تاياد السرية، تلتقي مرة في العام لتتسلق بيك دي كانيغو ... إلا أنهم في حقيقة الأمر يفعلونه تبشيرا بمعلمهم تاياد اسبيناس ونظريته العلمية ونوالا للحياة الأبدية". هؤلاء يصعدون إلى القمة التي صعد إليها غرينوي ذاته ليموت ـ أو ليحيا.

لغة الكتابة، لغة الكاتب

اللغة التي يكتب بها سوزكند كل حالة من "حالاته" تختلف بين الحالة والأخرى. باختصار شديد وسرعة يكتب عن الفنانة والشطرنج، حتى لا نكاد نمسك أنفاسنا. إنه يجرنا إلى عالم الكفاح، عالم الانبهار والتلف. باختلاق مصطلحات "علمية" مختلفة يكتب، ينطق، بلسان العلماء في "العطر" و"وصية المعلم موسارد". لكنها مصطلحات تكاد تكون مشتركة بين الاثنين، مصطلحات تسعى للهرب، للخلاص أو القتل، كما نعرفها من غرينوي الصامت. كل يصف العالم بعينيه. عينا الكآبة والملل، عينا التمرد والقتل. وفي الحمامة نكاد نشعر بالملل من دقة الوصف، فهو لا يترك حركة أو شيئا إلا وأعطاه "حقه" من الحياة في قصته.
تتميز لغة سوزكند بالدقة المعرفية والجمالية، التي نكاد لا نرى فيها أي حشو أو استطراد. فكأنه عطار حقيقي في "العطر"، يصف بدقة متناهية آلات وأساليب التقطير، فهو عاش فترة في غراس ليتعلم أسرار المهنة فعلا. وكأنه مصاب بمرض الاكتئاب في "الحمامة"، يصف بدقة متناهية ما يجري في رأس الحارس على باب البنك، تماما كما يصف العالم الداخلي لعازف الكونتراباص. بل هناك إيحاءات تدل على أنه جرب كل هذه الحالات في حياته الخاصة، التي لا نعلم عنها إلا القليل. فهو ابن كاتب، صديق لعائلة "مان" الأدبية، انخرط في العمل مع النازية. وهو الطالب الذي عاش في حجرات صغيرة، كما أنه الشاب، الرجل الانعزالي الذي مل من كل ما حوله.
معلمُ كلمات هو باتريك سوزكند ومع العطر يقود أجمل سيمفونياته. مع مطلع العطر يخضع روايته سلفا للنتن. ينتقل بين مشهد وآخر ـ هو السيناريست ـ حتى يحط عدسته على غرينوي في حقل يتدفق بالكلمات المتكررة، الكلمة ذاتها ترد عشرات المرات في الصفحتين الأوليين: "كانت الأنهار تنتن والساحات تنتن، والكنائس تنتن، الأكواخ كذلك والقصور. كان للفلاح ذفر القسيس وللصانع ذفر زوجة المعلم. كان النبلاء ينتنون، بل وحتى الملك كان نتنا ... لم يكن ثمة مظهر من مظاهر الحياة، نامية أو زائلة، إلا ورافقها النتن .... وهنا، في أنتن مكان في المملكة ولد جان بابتيست غرينوي". وفي مسقط رأسه هذا سيموت أيضا. فهل نشعر مللا من هذا التكرار!


أعمال زوسكند المترجمة إلى العربية:
ـ العطر، قصة قاتل: ترجمة كاميران حوج، دار الجمل، ط١ ٢٠٠۷.
ـ الحمامة: ترجمة كاميران حوج، دار الجمل، ط١ ٢٠٠۷.
ـ ثلاث حكايات وملاحظة تأملية: ترجمة كاميران حوج عن الألمانية، دار الجمل، ط١ ٢٠٠۷.
الكونتراباص، ترجمة كاميران حوج، دار الجمل، ط1، 2011

يذكر أن هناك ترجمات أخرى لنفس الأعمال 

مقالات متفرقة من كتاب آخرين عن ترجمات زوسكند
Formularbeginn
Formularende

وصيّة المعلّم باتريك زوسكند: الأسلوب هو الشخص
حسين بن حمزة
بعض الأدباء تلتصق أسماؤهم بكتاب واحد من بين كل الأعمال التي أنجزوها. الكاتب الألماني باتريك زوسكند هو واحد من هؤلاء. ارتبط اسمه برواية «العطر»، وصار هو وروايته شيئاً واحداً تقريباً. لقد عرفت هذه الرواية رواجاً واسعاً في كل اللغات التي ترجمت إليها. وهكذا انضم القارئ العربي أيضاً إلى جمهرة القراء الذين شكّلت «العطر» بالنسبة إليهم الماركة المسجلة باسم زوسكند وعلامته الروائية الفارقة. لكن هل كل نجاح كهذا هو دوماً نعمة على الكاتب؟ القراء يميلون إلى اختزال موهبة زوسكند وممارسته السردية كلها في «العطر» فقط، بل إن بعضهم قد يسأل: وهل لزوسكند كتب أخرى أصلاً؟ والجواب نعم بالتأكيد.
«
العطر» بهذا المعنى، تمنع القارئ من الاهتمام بكتب أخرى لزوسكند وتعطّل قراءة تجربته بطريقة متوازنة وعادلة. وهذا ما يحدث فعلاً. فحين صدرت روايته «الحمامة»، قلنا: آه إنها لصاحب «العطر». ثم أبدينا رد الفعل عينه حين صدرت مسرحية «الكونترباص». ولعلنا نواصل ذلك ونحن نطالع «ثلاث حكايات وملاحظة تأملية» (دار الجمل ـــــ عرّبه كاميران حوج عن الالمانيّة). يضم الكتاب، كما هو واضح من عنوانه، ثلاث قصص يغلب عليها التأمل الفلسفي، مضافاً إليه نص يجيب فيه المؤلف عن سؤال تقليدي يتعلق بالكتاب الذي أثر فيه، وغيّر مجرى مسيرته الأدبية.
في القصص الثلاث يتجلى مزاج زوسكند الخاص والمبتكر. المزاج الذي ينجح في اصطياد فكرة فريدة وغريبة من نوعها. القبض على أنفاس القارئ يبدأ من هنا، ثم تتلاحق الوقائع التي تختلط فيها الكتابة بالفلسفة وأسئلة الحياة والوجود.
في قصّة «بحثاً عن العمق»، يستثمر زوسكند عوالم تشيخوف ليروي حكاية رسامة قال لها أحد النقاد عرَضاً: إن أعمالها تحتاج إلى عمق أكثر. هذا التعليق، الذي كان يمكن أن يُنسى بعد لحظات، يرسم نهايتها المأساوية. تتوقف الفتاة عن الرسم، تكتئب، ثم ترمي بنفسها من مبنى عالٍ. أما قصة «الصراع» فتروي تفاصيل مباراة شطرنج بين بطل عجوز لم يسبق له أن هُزم، ومتحدٍّ شاب. المبارة تنتهي بفوز العجوز، ولكن زوسكند يوصل للقارئ رسالة مختلفة مفادها أنّ المهم هو طريقة اللعب وليس نتيجة المباراة. هكذا، فإن الفوز يُثير الاشمئزاز في روح العجوز، ويقرر أن يكفّ عن لعب الشطرنج نهائياً.
في القصة الثالثة «وصية المعلم موسارد» يفاجئ زوسكند القارئ بأمثولة أخرى، وهي أنّ ولادة الانسان تمثّل أول خطوة في رحلة موته. إنها أمثولة تكاد تكون كليشيه ساذجاً، لكن زوسكند يستخلصها من حكاية يتقن هو وحده اختراعها.
قيل إن الأسلوب هو الشخص. هذه سمة تنطبق على زوسكند. بالنسبة إليه، الأسلوب أهم من جسم الحكاية. ولكن الأسلوب هنا يتحالف مع الفكرة المبتكرة وطريقة النظر إلى العالم. وهذا ما يعيدنا مجدداً إلى رواية «العطر». ألم يقل كل واحد منا في سره بعد قراءتها: يا إلهي هل يمكن أن يحدث هذا فعلاً؟.


 2


«ثلاث حكايات وملاحظة تأملية» للألماني باتريك زوسكند بالعربية ... رسامة تنتحر وذاكرة تحاول ألا تنسى الكتب
رامي الأمين     الحياة     - 07/10/07//

باتريك زوسكند
من أين يأتي باتريك زوسكند، الكاتب الألماني صاحب «العطر» و «الحمامة» و «الكونترباص»، بكل الحكايات والحبكات والتجارب التي ينسج منها رواياته وقصصه القصيرة الناجحة في كل الاعتبارات؟ كيف يمكن الكاتب أن يوفّق بين قراءاته وبين خروجه إلى المجتمع لعيش التجارب؟ أي كيف يمكنه أن يجمع بين التجربة وعيش الحياة بكل ما فيها، والعمل الدؤوب والوقت اللذين تحتاجهما الكتابة المتينة والمبدعة التي ينتجها زوسكند، والتي تعرف كيف تسرق الألباب وكيف تضع قارئها أمام اسئلة من النوع الضخم؟ لا نعرف أجوبة وافية ومقنعة على هذه الأسئلة، لكن ما نعرفه هو أن باتريك زوسكند كاتب من الطراز الرفيع، وهو يمتلك مفاتيح السرد والثقافة اللازمة والتجارب الكافية ليؤسس نصّه المتماسك والذكيّ والإبداعي في الآن عينه. ولا تكاد تغيب لديه ميزة في سبيل أخرى، فهو قادر على الجمع بين خصوصيات العمل الأدبي الناجح، ويعرف كيف يمسك قارئه من الكلمة الأولى إلى أن يضع نقطة النهاية في آخر نصّه. هكذا فعل في «العطر» روايته الرائــعة التــي تحــولت عــملاً سينــمائياً، وأيــضاً في «الحــمامة»، وكــذا يــفعل في كتاب صادر حديثاً عن منشورات «الجمل» عنوانه «ثلاث حكايات وملاحــظة تــأملية» وقــد ترجــمه عن الألمــانية كامــيران حــوج.
يبدأ الكتاب بقصة قصيرة، أو حكاية بعنوان «بحثاً عن العمق»، تروي علاقة فتاة ترسم لوحات مع ناقد قال لها، «من دون أي سوء نية»، إن ما تقوم به جميل ولافت، «ولكن عندك القليل جداً من العمق». ولما أعاد الناقد تعليقه هذا في مقابلة صحافية معه، بدأت الفتاة بالتفكير، والتأمل في رسامة، لتعرف ما الذي يقصده الناقد تماماً في قوله عنها بأنها لا تمتلك «العمق». من شيء ليس ذي أهمية، عبارة نطق بها ناقد في حق فتاة، و «من دون أي سوء نية»، تنطلق الفتاة في دوامة البحث عن عمقها، وتلاحقها لعنة الأسئلة والشكوك، حتى تتسلل إلى مختلف تفاصيل حياتها، من رسمها إلى نومها وحياتها الشخصية، إلى بيتها وعلاقتها به، حتى علاقاتها الجنسية تأثرت بالجملة التي قالها لها الناقد. وراحت تفكّر بأن من يودّ أن يمارس معها الحبّ، لن يفعل إذا ما اكتشف أنها لا تمتلك العمق اللازم. يضخّم زوسكند الأمور من نقطة إلى تراكم للخطوط والدوائر، وينفذ من ثقب صغير إلى باحة واسعة في نصّه، جاراً القارئ إلى لعبته، من دون أدنى إزعاج أو ملل، بل بالعكس. ومزوداً بالكثير من الغموض والتشويق يرمي بقارئه في دوامة حبكته الحلوة، فيتعاظم السرد، وتزداد الأمور تعقداً مع الفتاة، حتى تقدم في النهاية على الانتحار. واحزروا ماذا سيكون تعليق الناقد على وفاتها؟ كتب في صحيفته، عكس ما كان نطق به سابقاً، قال إن أعمالها الأولى «الساــذجة ظاهراً، تنطق بذلك التمزق المرعب»، وإن في تــقنياتها «تــمرّداً موجــّهاً إلى الــداخل، يــحفر الــذات حــلزونياً».
في الحكاية الثانية، يغرقنا زوسكند في بحر الغموض ذاته، ويضعنا أمام مجموعة كبيرة من الأبواب المغلقة، التي حالما نفتحها، نجدنا أمام أخرى، وما علينا إلا أن نقرع ونفتح الأبواب، التي لا بد ستفضي إلى شيء في النهاية. من صراع بين لاعبي شطرنج، أحدهما كبير السنّ والتجربة، والآخر شاب صغير متهوّر، ولكن ذكيّ، وجمهور صغير يتحلق حولهما في ساحة، ينطلق في نسج خيوط عنكبوته، لنعلق فيها رويداً رويدا، حتى تحاصرنا من كل حدب وصوب، ونحاول الخروج منها باحثين عن مخرج من القصة، أي عن النهاية. وفي حبسنا هذا، حبس الانتظار، لا نملّ، بل بالعكس، نتسلى باللغة والحبكة الرائعة التي يكتب بها زوسكند نصّه.
أما في الحكاية الثالثة التي تحمل عنوان «وصية المعلم موسارد»، وهي وصية إحدى شخصيات جان جاك روسو في «الاعترافات»، فـ «يكشف» زوسكند رؤيته إلى نهاية العالم، أو علاقته بالوجود، بصفته عدماً يلتهمنا. فهو في هذه الحكاية، يطلعنا على سرّ اكتشفه المعلم موسارد، وهو أن العالم صدفة كبيرة سوف تطبق علينا وتخنقنا. ففي خلال عمل موسارد في حديقته، وحفره الأرض هناك، يكتشف أن تحت الأرض طبقة صدفية. وعندما ينطلق للبحث في أماكن أخرى، يكتشف أن الأمر في كل مكان، أي أن الأرض كلها مغمورة بالصدف، وأن الصدف هي عنصر تكوّن الأرض، وعنصر زوالها أيضاً وكما في الحكايتين السابقتين، يسرف زوسكند في شرح نظريته حول الصدف، ويتطرق إلى أدقّ التفاصيل في هذا الموضوع، ويرعب قارئه وكأنه لا يريده أن يكمل الرواية، خوفاً من اكتشاف ما هو أعظم في النص. لكن ليس في يد القارئ حيلة، إلا متابعة الرواية إلى آخرها، ليعرف مصيره، ومصير موسارد، الذي ينتهي إلى تأكيد أن لا خلاص ولا غوث، فـ «الصدفة العظيمة ستفتح جناحيها وتغلقهما على العالم وتطحن كل ما هو موجود». ويموت موسارد متحجراً، في شكل واحد، بزاوية قائمة، ولا يستطيع الناس دفنه إلا بحفر قبر يناسب جسده المتحجّر.
وإضافة إلى الحكايات الثلاث، يكتب زوسكند «ملاحظة تأملية»، على ما يسميها، وهي مقال في عنوان «فقدان الذاكرة الأدبية»، يتناول فيه تجربته مع نسيانه لما يقرأه أو ما كان قد قرأه من كتب في مكتبه، وأنه لا يستطيع الإستفادة من الكتب التي قرأها، لأنه لا يستطيع تذكّرها. مثلاً، يقول في ملاحظته التأملية: «ماذا أرى هنا؟ آه، نعم نعم. ثلاثة كتب عن سيرة حياة الكسندر الكبير. لقد قرأتها كلها ذات مرة. وماذا أعرف عن السكندر الكبير؟ لا شيء». بأسلوبه المحبب والساخر، يتناول إشكالية لا بدّ من أن كثيرين يعانون منها، وهي ليست مرضاً، بل مشكلة أساسية تتعلق بجدوى القراءة، أو عدم جدواها. إنه يضع القراءة على المحك، خصوصاً بالنسبة إلى الذين لا يستطيعون الاستفادة مما يقرأونه. ولكن، حتى الذين يعانون من هذه المشكلة، مشكلة النسيان، وفقدان الذاكرة الأدبية، فإن كثيرين قد يجدون صعوبة في نسيانه. إنه كتاب للذاكرة، ويبقى طويلاً فيها.

3


«العطر» مرة أخرى
عبده وازن     الحياة     - 30/07/07//
تكاد أعمال الكاتب الألماني باتريك زوسكند تكتمل عربياً بعدما تنافس عليها المترجمون والناشرون معاً. وها هي روايته البديعة «العطر» تصدر في ترجمة ثانية أنجزها الكاتب السوري كاميران حوج وتبنتها دار الجمل. وكان الناقد السوري نبيل حفار ترجمها قبل نحو عشر سنوات ونشرها المجمّع الثقافي في أبو ظبي ولكن من غير أن يوزعها بل هو أودعها في الظل أو خبّأها حتى أعادت إصدارها دار المدى في دمشق. كان نبيل حفار المتضلع من اللغة الألمانية سبّاقاً فعلاً الى إدراك «عظمة» هذه الرواية التي عرفت فور صدورها عام 1985 نجاحاً كبيراً، أدبياً وشعبياً، وسرعان ما نقلت الى لغات كثيرة ونمّت عن ولادة روائي كبير كان في السادسة والثلاثين عندما أصدرها.
ولم تمضِ بضع سنوات حتى أصبحت هذه الرواية أشبه بالأسطورة، واستطاعت أن تكرّس نفسها واحدة من الروايات الرئيسة التي يمكن وصفها بـ «الخالدة». وهذه السنة انتقلت الى الشاشة الكبيرة فيلماً سينمائياً بديعاً أيضاً وإن لم يكن في مستوى النص الأدبي. فالمخرج السينمائي توم تايكور لم يستطع أن يحمل الى الشاشة أسرار هذه الرواية وأبعادها الفلسفية وأن يضيء الزوايا الميتافيزيقية التي تحفل بها. لكن هذا الأمر لا يعني أن المخرج غير قدير سينمائياً مقدار ما يعني أن الرواية منيعة أمام الكاميرا بأجوائها الملتبسة وألغازها... ويصعب فعلاً تجسيد لحظاتها العالية والأحوال التي تخامر «البطل» جان باتيست غرينوي الذي يجمع بين ملامح الشيطان والمخلّص وكأنه وجه آخر لبطل غوته «فاوست». ولعل المشهد الذي يخنق فيه»البطل» الفتاة التي سحرته بعطرها، وقد اشتمّه من بعيد غريزياً وجمالياً، يظل أقوى في الرواية منه في الفيلم، وأشد فتنة وروعة.
ترجمة ثانية إذاً لرواية «العطر» وانطلاقاً من اللغة الألمانية. إنها مناسبة أخرى لقراءة هذه الرواية في صيغة تختلف عن الصيغة التي أنجزها نبيل حفار. وقد تحتمل رواية «العطر» ترجمة ثالثة ورابعة، مثلها مثل الأعمال الكبيرة التي تمنح المترجم فرصة للإبداع، شرط أن يكون المترجم في مستوى النص واللغة التي يعتمدها باتريك زوسكند وميزتها أنها توفّق بين البساطة والامتناع. وقد يكون من الممتع أن يعمد قارئ أو كاتب يجيد الألمانية، الى المقارنة بين الترجمتين وإبراز الاختلاف بينهما لغوياً وأسلوبياً، وكشف الأخطاء إن وجدت والمحاسن إن وجدت أيضاً. فالرواية ليست عادية بتاتاً وهي تغري القارئ كثيراً، أياً كانت طبيعته أو ذائقته.
كتب الكثير عن هذه الرواية في كل اللغات مثلما كتب الكثير أيضاً عن صاحبها وأعماله الأخرى التي مهما بلغت أهميتها تظل دون «العطر». هذه الرواية الوحشية، الوثنية والميتافيزيقية، رسمت صورة أخرى لمفهوم الخلود متجلياً عبر الرائحة أو العطر. ولعل «البطل» هذا «المجرم الميتافيزيقي» لم يسع الى قتل الفتيات إلا تخليداً لهن عبر روائح أجسادهن. ولئن بات باتريك زوسكند يعيش حياة شبه سرية بعد النجاح الهائل لهذه الرواية، منقطعاً الى عالمه ومبتعداً عن أضواء الشهرة والإعلام، فهو نادراً ما يكتب وينشر حتى ليمكن وصفه بـ «الكاتب المقلّ». فالرواية الفريدة التي تنتمي الى «الأعمال الكلاسيكية الحديثة» كانت له أشبه بالنعمة والنقمة في آن واحد. ماذا يمكنه أن يكتب بعد هذا العمل الضخم؟ ولعل العودة الى أعماله الأخرى الجميلة مثل «الحمامة» والقصص الموزعة في أكثر من مجموعة تؤكد أن «العطر» هي بيت «القصيد» كما يقول العرب، في مسيرته الروائية. إلا إذا فاجأ قراره برواية في قوتها أو رحبتها. لكن هذا لا يعني أن نصوصه الأخرى عادية وخلو من الجمال والإبداع والعمق. وقد صدر له بالفرنسية أخيراً نص فلسفي ذو نزعة تأملية، دينية وصوفية وعنوانه «عن الحب والموت».
لم يعد باتريك زوسكند غريباً عن المكتبة العربية والقراء العرب بعدما ترجمت معظم أعماله الى لغة الضاد. وأي ترجمة أو إعادة ترجمة لأيٍّ من كتبه تظل بمثابة العمل الإبداعي. والقراء سينتظرون أعماله بالعربية مثل نظرائهم في العالم أجمع. والأمل كل الأمل أن يطلع باتريك زوسكند عليهم بجديد، كاسراً تخوم العزلة التي يحيا فيها.
http://www.alhayat.com/culture/bookrevs/07-2007/Item-20070729-12e28f0f-c0a8-10ed-0169-5e99db3bb6c6/story.html
4


قصص من ألمانيا الى العربية: (ثلاث حكايات وملاحظة تأملية)
أرسلت في الأثنين 11 يونيو 2007

بول شاؤول

صدر عن دار الجمل (كولونيا ـ بغداد) "ثلاث حكايات وملاحظة تأملية" للألماني باتريك زوسكند وترجمها عن اللغة الام كاميران حوج.
هذه النصوص القصصية التي نقلها باداء دقيق كاميران حوج والتي تتميز بأسلوب سردي صارم، مكثف، بلا زوائد ولاتراكم يتمتع ايضا بحس ساخر عميق ودقيق، يصيب بعض عوارض المجتمع والأجواء الثقافية الالمانية. زوسكند كاتب يعرف كيف يختزل بقوة، ويحتفظ في الوقت نفسه، بقوة الايحاء، وبقوة الدلالة، وان بلا اعجاز، وان بتعبير يستمد من مادة الواقع ومن خلفياته.

اخترنا قصة "بحثاً عن العمق"!

بحثاً عن العمق
باتريك زوسكند

راغباً في تشجيعها، ومن دون اي سوء نية، قال ناقد لفتاة من شتوتغارت، ترسم لوحات جميلة، في أول معارضها: "ان ما تقومين به موهوب ولافت للنظر، لكن عندك القليل جداً من العمق".
لم تفهم الفتاة ما يعنيه الناقد، وفي الحال نسيت ملاحظته. لكن بعد يومين، نشرت الجريدة لقاء مع الناقد نفسه جاء فيه: "تملك الفنانة الشابة الكثير من الموهبة وتثير أعمالها الاعجاب من النظرة الأولى، لكنها للأسف تفتقر الى العمق".
بدأت الفتاة بالتفكير. تأملت في رسوماتها. نقبت في محافظ لوحاتها القديمة. تأملت جميع رسوماتها السابقة والرسومات التي تعمل عليها. ثم سدت زجاجات الحبر الصيني. غسلت الفراشي وذهبت كي تتمشى.
في المساء نفسه دعيت الى حفل. كان الجميع قد حفظ النقد عن ظهر قلب وكرروا الحديث عن الموهبة الكبيرة والاعجاب الشديد اللذين تثيرهما اللوحات من النظرة الأولى. لكن الفتاة تمكنت ان تلتقط من خلفية الدمدمة ومن أولئك الذين تقف وراءهم، اذ اصاخت السمع: "ليس عندها عمق هذا بالضبط ما ينقصها. هي ليست سيئة. لكن للأسف ليس لديها عمق".
طوال الأسبوع التالي، لم ترسم الفتاة شيئاً. جلست صامتة في شقتها. أمعنت التفكير وجالت برأسها فكرة واحدة فقط، حاصرت أفكارها الأخرى مثل أخطبوط الأعماق وبلعتها: "لماذا ليس لدي عمق؟"
في الأسبوع الثاني حاولت الفتاة ان ترسم من جديد، لكنها لم تتعد مشاريع لوحات لا مهارة فيها. وأحياناً لم تتمكن من رسم خط واحد. بالنهاية ارتجفت ارتجافاً شديداً، لم تقدر بعده على غمس الريشة في زجاجات الحبر الصيني. فبدأت بالبكاء وأعولت: "نعم، صحيح ما يقولون، ما عندي عمق".
في الأسبوع الثالث بدأت تحدق في كتب الفن، تدقق في اعمال الرسامين الآخرين، تتجول بين المعارض والمتاحف. قرأت كتباً نظرية عن الفن. ذهبت الي المكتبة وطلبت من البائع اعمق ما لديه من الكتب. حصلت على عمل لكاتب اسمه (فيتغنشتاين). ولم تستفد منه شيئاً.
انضمت اثناء تجوالها في معرض اقيم في متحف المدينة تحت عنوان "500 عام من الرسم الأوروبي" الى مجموعة من التلاميذ يقودهم مدرس الفنون. فجأة، أمام لوحة من أعمال ليوناردو دافنشي، تقدمت الى المدرس وسألته: "المعذرة، هل لكم ان تشرحوا لي، ان كان في هذا الرسم عمق؟". ابتسم لها المدرس ابتسامة ماكرة وقال: "إذا كنت تنوين أن تتسلي معي، عليك أن تكوني اكثر مهارة، سيدتي الموقرة". ضحك التلاميذ من أعماق قلبهم. إلا أن الفتاة مضت الى البيت وبكت بمرارة.
ازدادت غرابة الفتاة. لم تعد تترك مرسمها إلا بالكاد ورغم ذلك لم تتمكن من العمل. تناولت الحبوب لتبقى يقظى، دون أن تعلم ما الداعي لأن تبقى يقظة. وعندما تتعب، كانت تنام في كرسيها، لأنها تخاف الذهاب الى السرير، خشية عمق النوم. ثم انها بدأت بالشراب وتركت الأضواء مشتعلة في الشقة طوال الليل. لم تعد ترسم. عندما اتصل بها تاجر فن من برلين طالباً بعض لوحاتها، صرخت في التلفون: "أتركني بحالي. ليس لدي عمق".
عجنت الصلصال بين الحين والآخر، لكنها لم تشكل شيئاً معيناً. اكتفت بدس أناملها في الصلصال أو شكلت كبيبات صغيرة. أهملت مظهرها. لم تعد تأبه بملبسها وتبهدلت شقتها.
قلق عليها أصدقاؤها وقالوا: "يجب الاهتمام بها، فهي في أزمة. إما أن الأزمة انسانية أو أنها فنية، وربما كانت مالية. في الحالة الأولى لا يمكن فعل شيء. في الحالة الثانية، عليها تجاوز محنتها. وفي الحالة الثالثة يمكننا أن نجمع لها التبرعات، لكن أغلب الظن ان هذا سيؤذي مشاعرها". وهكذا اكتفوا بدعوتها الى الطعام والحفلات. رفضت كل الدعوات بحجة العمل. لكنها لم تعمل، بل كانت تجلس في غرفتها، تحدق أمامها وتعجن الصلصال.
ذات مرة يئست من نفسها يأساً شديداً وقبلت إحدى الدعوات. أراد شاب أعجب بها أن يأخذها الى البيت كي يضاجعها. قالت ان اصطحابه لها يسرّها، فهو أيضاً يعجبها، لكن عليه أن يحتاط، فهي لا تملك عمقاً. وعليه وقف الشاب على مسافة منها.
تدهور وضع الفتاة، التي كانت ترسم ذات مرة لوحات جميلة، بشكل ملحوظ. لم تعد تخرج مطلقاً، لم تعد تستقبل أحداً. سمنت بسبب قلة الحركة وشاخت سريعاً بسبب الكحول والحبوب. بدأت شقتها بالتعفن وفاحت منها رائحة حامضة.
كانت قد ورثت 30 ألف مارك، عاشت منها طوال ثلاثة أعوام. وقامت خلال تلك الفترة برحلة الى نابولي، لا يعلم أحد تحت أية ظروف. من كلمها حصل منها جواباً على دمدمة غامضة. وعندما أنفقت نقودها، مزقت المرأة الشابة رسوماتها وثقبتها. صعدت برج التلفزيون وقفزت من ارتفاع 139 م. الى العمق. لكن ولأن رياحاً قوية هبت ذلك اليوم، لم تتحطم على الساحة الاسفلتية تحت البرج، بل حملتها الرياح عبر حقل الشوفان بعيداً حتى أطراف الغابة، حيث سقطت على أشجار التنوب. إلا أنها، رغم ذلك، ماتت.
شاكرة التقطت الصحافة الصفراء الموضوع. كان للانتحار بحد ذاته، مسار الطيران الغريب، واقعة أن المنتحرة كانت فنانة واعدة، وعلاوة عليه وسيمة، قيمة معلوماتية عالية. ظهر أن وضع شقتها مأساوي، التقطت لها صور مثال على الشقاء. آلاف الزجاجات المفرغة. علامات الخراب في كل مكان. لوحات ممزقة، بقع الصلصال على الجدران، بل وحتى الفضلات في الزوايا. خاطرت الصحافة بعنوان رئيسي ثان وتقرير على الصفحة الثالثة.
في الصفحة الأدبية، كتب الناقد المذكور أعلاه، تعليقاً عبر فيه عن شديد أسفه، لنهاية الفتاة هذه النهاية المؤلمة: "من جديد تهزنا من الأعماق، نحن الباقين، حقيقة أن نرى موهبة شابة، لا تملك من القوة ما يكفيها لتثبت وجودها في المشهد الفني. هنا لا يلعب تشجيع الدولة والمبادرات الفردية الدور الحاسم، عندما يتعلق الأمر بأن يفسح المجال بالدرجة الأولى لصب الاهتمام في الحقل الانساني ولمرافقة متفهمة في القطاع الفني. بيد أن بلوغ هذه النهاية المأسوية يقع بالنتيجة في الفرد. أفلا تنطق أعمالها الأولى، الساذجة ظاهرياً، بذلك التمزق المرعب، ألا يقرأ من تقنياتها صعبة المراس، صاحبة الرسالة، ذلك التمرد الموجه الى الداخل، الذي يحفز الذات حلزونياً، غير المجدي بشكل واضح، الذي يبديه المخلوق على ذاته؟ ذلك البحث الجبري خطير العواقب، أود القول، الذي لا يرحم، عن العمق".

---
عن المستقبل
 5
الخفة تفكك الأشياء وتتولي وظيفة القص
من ناظم السيد:
لقدس العربي
25-Jun-2007

بيروت :ـ يقوم كتاب باتريك زوسكند، الصادر مؤخراً عن دار الجمل بترجمة كاميران حوج بعنوان ثلاث حكايات وملاحظة تأملية ، علي الخفة كشرط للقص أو للسرد، أي ان الخفة تدخل في بناء الحكاية وليست مجرّد تنويع خارجي. بهذه الخفة يمتدُّ الحدث ومنها يستمد قدرته علي المتابعة والمراكمة. والخفة المقصودة هنا هي معادل للضحك بمعني من المعاني. هذا الضحك الذي اعتبره ميلان كونديرا جزءاً أساسياً من بنية الرواية في كتابيه النقديين خيانة الوصايا و فن الرواية كما ضمّنه معظم كتبه كما يظهر من أحداثها وكما تشي عناوين من مثل كتاب الضحك والنسيان ، المزحة ، خفة الكائن التي لا تطاق و غراميات مرحة .
بالطبع، ثمة اختلاف بين هذين الروائيين، إذ يبدو الضحك عند كونديرا أداة لتفكيك القيم والبديهيات وللنقد السياسي بينما يأخذ عند زوسكند بعداً درامياً في هذا الكتاب تحديداً، ذلك أن هذه الملاحظة الشخصية لا تنطبق علي كتابات هذا الروائي من خلال روايتيه السابقتين العطر ـ قصة قاتل و الحمامة .
الكتاب الذي بين أيدينا يختلف كثيراً وإن كان يحتفظ بذلك التأمل المتوتر الذي ظهر في رواية الحمامة . لنقل إن ضحك زوسكند هو نوع من المفارقات المأساوية كما يبدو في الحكاية الأولي بحثاً عن العمق .
حكاية فنانة تشكيلية شابة يمتدحها أحد النقاد لكنه يأخذ عليها عدم العمق في رسوماتها. لا تفهم الشابة هذا النقص فتروح تفتش عليه في كتب النقد وفي المعارض وفي الأكاديميات لتنتهي أخيراً مدمنة علي الكحول والأدوية قبل أن تمزّق أعمالها وتنتحر. لكن بعد انتحارها نقرأ رثاء للناقد نفسه، رثاء متلعثماً وغامضاً يشي بوجود عمق عند الفنانة التي باتت ميتة الآن. في الحكاية الثانية الصراع يصوّر المؤلف صراعاً في لعبة الشطرنج بين عجوز مترهل ورث الثياب ما زال يربح علي خصومه منذ نحو تسع سنوات من غير خسارة واحدة. أما الشاب الغريب علي الحاضرين فقد بدا واثقاً بالنصر. أو هكذا خُيّل للأشخاص الذين تحلقوا حوله متمنين له الربح شامتين بالعجوز.
وفي نهاية الحكاية يربح العجوز الذي لا يثير حماسة الآخرين بطريقة لعبه الباردة والمدروسة رغم أنه، أي العجوز، تمني في داخله أن يخسر أمام هذا الشاب ليستريح من عناء الربح الذي يحمله طوال سنوات وسنوات. الحكاية الثالثة بعنوان وصية المعلم موسارد التي يخبر فيها سبب إصابته بمرض الصدفية.
والسبب هو اكتشافه نهاية العالم. ونهاية العالم بحسب المعلم ستكون بسبب تصدّف الأرض أو إصابتها بالصدف كما حصل للقمر من قبل. وكان موسارد قد اكتشف ذلك مصادفة من خلال وجود الصدف علي اليابسة الذي ينشأ من المياه الجوفية وليس بسبب أزمان جيولوجية سابقة كانت فيها البحار والمحيطات تملأ الأرض كلها.
ويعطي موسارد مثالاً علي نظريته تحوّلات الفرد البشري من الطفولة إلي الشيخوخة، أي من طفل طري العظم واللحم إلي عجوز يشبه الصدفة في تحجّرها قبل أن يموت ويتحول إلي صدفة كاملة، أي إلي هيكل عظمي. الحكاية الأخيرة وهي الملاحظة التأملية التي وردت علي غلاف الكتاب بعنوان فقدان الذاكرة الأدبية ، وفيها يحاول أحد القرّاء أو الكتّاب معرفة الكتاب الذي غيّر حياته، لكنه ينسي الكتاب والروائي معاً.
ومن نسيان قصيدة إلي نسيان شاعر إلي نسيان جمل إلي نسيان ما بدأه في أول الحكاية نجد أنفسنا أمام قصة تتنامي بالنسيان وحده بلا حدث.
بالطبع، ثمة قراءات غير العبث والخفة والضحك الأسود لهذه الحكايات الأربع. في القصة الأولي هناك امتداح ضمني للشباب وسخرية من النقد التشكيلي الحديث (وغير التشكيلي). في الحكاية الثانية هناك صراع بين الشيخوخة والشباب، بين القديم والجديد، بين الكلاسيكية والحداثة، بين المتانة والتهوّر، بين الحكمة والمغامرة، بين النصر والمتعة، وكل ذلك من خلال لعبة الشطرنج التي يتبارز بها عجوز وشاب. في الحكاية الثالثة هناك العبث بالعلوم الطبية والفلكية والجيولوجية والأنتروبولوجية. في الحكاية التأملية الأخيرة ثمة تكرار لنظرية العلاقة بين القراءة والكتابة من جهة والذاكرة من جهة أخري، أو بين الثقافة ومصاردها.
في كل حال، ما يبدو لافتاً في كتاب ثلاث حكايات وملاحظة تأملية أن زوسكند فقد ذلك الانفعال والقدرة علي البناء والبحث الذي يميّز الرواية وتنويع الأصوات ورسم الشخصيات وصناعة الحدث والإدهاش، أي كل تلك العناصر التي زخرت بها رائعته الشهيرة العطر ـ قصة قاتل التي تحوّلت إلي فيلم عرضته الصالات السينمائية قبل فترة قصيرة. لكنه في الوقت نفسه احتفظ بذلك الفانتازم الذي يتكرر في أعماله، فانتازم يقع علي تخوم الواقع من غير أن يدخل في مخيلة سحرية أو ميثولوجية. هذا الفانتازم الذي ينشأ من رُهاب ما ومن خليط حياتي وأدبي من دون أن يغدو أسطورة كما عند ماركيز علي سبيل المثال. ذلك أن هذا الفانتازم ملتزم بتأمل الواقع وبتفكيك الحياة وليس بالجنوح الأسطوري.

  6
الرواية الأولى لزوسكيند:

عطر يدين الزيف والنفاق والفساد..



رواية العطر للألماني باتريك زوسكيند, ليست رواية أسرية, مثل مئة عام من العزلة لماركيز, أو بيت الأرواح لايزابيل الليندي مثلا, وليست من الروايات النفسية التي سادت أوروبا في السبعينات, أو حتى الرواية الاجتماعية التي تلتها, وليست رواية مكان كما أبدعه الراحل العربي الكبير نجيب محفوظ , لكنها رواية تكتسب خصوصيتها من موضوعها الجديد, ومن القيم الإنسانية المطلقة التي حملتها , فالنصف الأول من هذا النص السردي الخلاق , كان رائعا بروحه الفنية والموضوعية الثرية, و لغته الو صفية العالية, لقد حمل هذا الجزء لحظات أدبية غاية في الفن الإنساني الرائع والخلاق فعلا, والمحرض على ارتكاب فعل الفن. بينما النصف الثاني من الرواية, كان فيه كثير من التكرار, و كثير من الأجواء البوليسية المملة, وتجلى ذلك في حياة البطل بالجبل, على سبيل المثال .

للرواية بطل واحد هو المحرك الرئيس للأحداث, يشاركه الكثير من الشخوص أثناء مسيرة الرواية حتى يلاقي حتفه, هو عامل بسيط جدا, يسكن أحد أحياء باريس الفقيرة, بشع الشكل ومكروه ومحتقر وفقير, غر نوي الذي ترك العمل في مدابغ الجلود, و اشتعل في محل للعطارة, بدأت موهبته في القدرة القوية على الشم, تفتح له أبوابا رحبة حين قام بخلطات سحرية وعبقرية للعطور, أذهلت تجار العطور في باريس, كان هذا في القرن الثاني عشر الميلادي, ثم تطورت موهبته لما هو أكثر خطورة فأصبح في ما بعد عبقريا في شم الروائح عن بعد, واستحضار أفضل العطور منها, ثم موهبته التالية في تخزين أرواح الفتيات الصغيرات في رأسه, لكي تظل رحيقا يعب منه ساعة يشاء, أصبح مريضا بأرواح الفتيات الصغيرات, ويستطيع من على بعد عدة أميال أن يتلمس ذلك العبق الآسر في روح وجسد فتاة بعيدة, فيذهب لها قاطعا مئات الأميال, تخفق روحه لرائحتها ولروحها العذبة, وها هو يصل إليها بعد أن تدله حاسة الشم الخارقة على ذلك المكان القصي من باريس القديمة, فينشب مخلب حاسة الشم في جسدها الصغير لتهلك فورا, فيقبض على ما يشبه روحها, يخزن هذه الرائحة في رأسه, ثم يركض لمعمله فيحيلها إلى عطر عبقري عظيم الأثر.

اللحظات الأخيرة من الرواية, ومن حياة البطل الذي أصبح محكوما بالإعدام, كان فيها أمام جموع البشر مبتسما مع الشعور بأنه مطارد, وقد وقعوا في فخ رائحته الآسرة التي أخذها من روح وجسد فتاة صغيرة وعبأها في قارورة رأسه, غرنوي الناشئ من القمامة والعفن, والذي تربى دون حب, وعاش دون روح, وبلا قيم إنسانية, غرنوي الضئيل الأحدب والأعرج البشع, والعامل البسيط, هكذا جعل من نفسه محبوبا من الناس بثورة العطر المميز, لكن بعد أن قتل أكثر من عشرين فتاة من فتيات المدينة فصدر بحقه حكم الإعدام, لكنه لازال متخفيا كأنه روح, إذ أخذ يشيع روائح الفتيات الرائعات من جسده, الذي تحول إلى كائن جاذب لكل من يمر أمامه, لكنه ألان أمام لحظة إعدامه.

في هذه اللحظات, خرج إلى الساحة ليبث من روحه أفضل عطر في العالم, فأحبه كل من في الساحة وهاموا بروحه وجسده, نساء ورجال وأطفال, حتى رجال الشرطة, وأيضا الرجل المكلف بقتله, وهو ألان أمام هذه اللحظة التي تشبه فخا للرائحة العظيمة, كان يود التأكيد أنهم يعبرون له عن حب وتبجيل غبي, لأنه قبل أن يمتلك هذه الرائحة كان محتقرا كشيء ضئيل, عامل تافه لا قيمة له, لكن الكره الذي أحس به تجاه البشر ظل دون صدى فكلما ازداد كرهه لهم في هذه اللحظة, كلما عبدوه, وكان أكثر ما يريده ألان هو أن يمحوهم جميعا من على وجه البسيطة, هؤلاء البشر الأغبياء والمستثارين جنسيا كما يرى غرنوي.

هناك في ذلك العالم المليء بالروائح, مابين سطور الروائح, هناك روائح أخرى, لم يصنعها بطل الرواية, إنها روائح الزيف والنفاق والدجل والفساد التي نشأ وسطها هذا الطفل الفقير, وهي التي جعلته بهذا الشكل فاقدا للروح والمعنى, حتى استطاع أن يرد اعتباره أمام هذا المجتمع المريض بالزيف والنفاق والفساد, التي كشف عنها هذا الطفل البشع والفقير والمحتقر من مجتمع لا يقيم اعتبارا للمشاعر الإنسانية, وربما هنا جوهر القيمة الحقيقية لهذه الرواية الجميلة .

ورغم جمال رواية العطر وخصوصيتها وروائحها العبقرية, إلا أننا بحاجة ربما لبعض النقاط الانطباعية حول النص ومنها: موت صاحب محل الجلود غريمال بعد خروج غرنوي من محله مباشرة حيث شرب كثيرا فسقط في النهر, وموت بالديني أيضا بعدما ترك غرنوي العمل لديه مباشرة, إذ سقط منزله فضاعت ستمائة وصفة عطر مميزة في النهر, موت الطبيب أيضا بعد هروب غر نوي, حين صعد جبل الثلج, بمعنى أن كل من عمل لديه البطل ثم تركه, يموت فورا.


من لحظة خروج غرنوي من بيت بالديني مكث سبع سنوات في مغارة جبل فكانت صفحات مملة في الرواية مع تكرر عبارة (طوال سبع سنوات)عدة مرات, وعند وصول البطل إلى غراس, عمل عند أرمله عبدا لقاء اجر متواضع وظروف سكن رديئة جدا, وكان بامكانه أن يعبر عن مواهبه في الشم واستحضار العطور ليعيش أفضل.

(
بعد منتصف الليل كان حفا روا القبور قد غادروا, فدبت الحياة في المكان, ظهر السفلة بكافة أنواعهم و اللصوص والقتلة وضاربو السكاكين والعاهرات, والفارون من الجيش, والشباب الجانحون, فأوقدوا نارا صغيرة كي يطبخوا عليها طعامهم ويطردوا الروائح الكريهة, عندما ظهر غر نوي فجأة, من تحت الأقواس واختلط بينهم, لم ينتبهوا لوجوده في البداية مطلقا, فكان بوسعه أن يقترب من نارهم, وكأنه واحد منهم, وقد أكد هذا فيما بعد فكرتهم عن انه كان شبحا أو ملاكا, أو شيئا طبيعيا من هذا القبيل, فحساسيتهم في العادة كانت عالية جد, ا عند اقتراب أي غريب منهم, إلا أن هذا الرجل الضئيل ذا البزة الزرقاء, كان موجودا هناك فجأة وببساطة وكأنه قد نبت من الأرض, وكانت بيده زجاجة صغيرة رفع غطاءها, كان هذا أول ما تذكروه جميعا, وجود شخص يرفع غطاء زجاجة صغيرة, ثم اخذ يرش على نفسه من محتوى الزجاجة هنا وهناك, وفجأة انسكب عليه الجمال كنار متأججة ).

في نهاية الرواية, تراجع السفلة, نتيجة الدهشة الهائلة, وكان تراجعا يقدم للهجوم, انجذبوا لهذا الرجل الملاك, شكلوا حلقة حوله, تضيق شيئا فشيئا, بدأوا يضغطون ويتزاحمون, ثم هجموا على الملاك المجرم, الذي سبق أن صدر بحقه حكم بالإعدام, انقضوا عليه ورموه أرضا مزقوا ثيابه ثم شعره وجلده, ثم... أكلوه, كالضباع الجائعة, فتبخرت روائح العطر العبقري ولم يتبخر النص من ذاكرتي.
لكن في روايته الثانية, الحمامة, الوضع مختلف كثيرا, هناك عزلة, وحمامة, وخوف يتطور, بشكل مؤثر وعميق, ربما هي ليست أجمل من العطر لكنها أكثر تكثيفا وعمقا.


فهد العتيق / الرياض


7

ثلاث حكايات وملاحظة تأملية» للألماني باتريك زوسكند بالعربية ... رسامة تنتحر وذاكرة تحاول ألا تنسى الكتب
رامي الأمين جريدة الحياة - الاحد 7/10/2007

من أين يأتي باتريك زوسكند، الكاتب الألماني صاحب «العطر» و «الحمامة» و «الكونترباص»، بكل الحكايات والحبكات والتجارب التي ينسج منها رواياته وقصصه القصيرة الناجحة في كل الاعتبارات؟ كيف يمكن الكاتب أن يوفّق بين قراءاته وبين خروجه إلى المجتمع لعيش التجارب؟ أي كيف يمكنه أن يجمع بين التجربة وعيش الحياة بكل ما فيها، والعمل الدؤوب والوقت اللذين تحتاجهما الكتابة المتينة والمبدعة التي ينتجها زوسكند، والتي تعرف كيف تسرق الألباب وكيف تضع قارئها أمام اسئلة من النوع الضخم؟ لا نعرف أجوبة وافية ومقنعة على هذه الأسئلة، لكن ما نعرفه هو أن باتريك زوسكند كاتب من الطراز الرفيع، وهو يمتلك مفاتيح السرد والثقافة اللازمة والتجارب الكافية ليؤسس نصّه المتماسك والذكيّ والإبداعي في الآن عينه. ولا تكاد تغيب لديه ميزة في سبيل أخرى، فهو قادر على الجمع بين خصوصيات العمل الأدبي الناجح، ويعرف كيف يمسك قارئه من الكلمة الأولى إلى أن يضع نقطة النهاية في آخر نصّه. هكذا فعل في «العطر» روايته الرائــعة التــي تحــولت عــملاً سينــمائياً، وأيــضاً في «الحــمامة»، وكــذا يــفعل في كتاب صادر حديثاً عن منشورات «الجمل» عنوانه «ثلاث حكايات وملاحــظة تــأملية» وقــد ترجــمه عن الألمــانية كامــيران حــوج.

يبدأ الكتاب بقصة قصيرة، أو حكاية بعنوان «بحثاً عن العمق»، تروي علاقة فتاة ترسم لوحات مع ناقد قال لها، «من دون أي سوء نية»، إن ما تقوم به جميل ولافت، «ولكن عندك القليل جداً من العمق». ولما أعاد الناقد تعليقه هذا في مقابلة صحافية معه، بدأت الفتاة بالتفكير، والتأمل في رسامة، لتعرف ما الذي يقصده الناقد تماماً في قوله عنها بأنها لا تمتلك «العمق». من شيء ليس ذي أهمية، عبارة نطق بها ناقد في حق فتاة، و «من دون أي سوء نية»، تنطلق الفتاة في دوامة البحث عن عمقها، وتلاحقها لعنة الأسئلة والشكوك، حتى تتسلل إلى مختلف تفاصيل حياتها، من رسمها إلى نومها وحياتها الشخصية، إلى بيتها وعلاقتها به، حتى علاقاتها الجنسية تأثرت بالجملة التي قالها لها الناقد. وراحت تفكّر بأن من يودّ أن يمارس معها الحبّ، لن يفعل إذا ما اكتشف أنها لا تمتلك العمق اللازم. يضخّم زوسكند الأمور من نقطة إلى تراكم للخطوط والدوائر، وينفذ من ثقب صغير إلى باحة واسعة في نصّه، جاراً القارئ إلى لعبته، من دون أدنى إزعاج أو ملل، بل بالعكس. ومزوداً بالكثير من الغموض والتشويق يرمي بقارئه في دوامة حبكته الحلوة، فيتعاظم السرد، وتزداد الأمور تعقداً مع الفتاة، حتى تقدم في النهاية على الانتحار. واحزروا ماذا سيكون تعليق الناقد على وفاتها؟ كتب في صحيفته، عكس ما كان نطق به سابقاً، قال إن أعمالها الأولى «الساــذجة ظاهراً، تنطق بذلك التمزق المرعب»، وإن في تــقنياتها «تــمرّداً موجــّهاً إلى الــداخل، يــحفر الــذات حــلزونياً».

في الحكاية الثانية، يغرقنا زوسكند في بحر الغموض ذاته، ويضعنا أمام مجموعة كبيرة من الأبواب المغلقة، التي حالما نفتحها، نجدنا أمام أخرى، وما علينا إلا أن نقرع ونفتح الأبواب، التي لا بد ستفضي إلى شيء في النهاية. من صراع بين لاعبي شطرنج، أحدهما كبير السنّ والتجربة، والآخر شاب صغير متهوّر، ولكن ذكيّ، وجمهور صغير يتحلق حولهما في ساحة، ينطلق في نسج خيوط عنكبوته، لنعلق فيها رويداً رويدا، حتى تحاصرنا من كل حدب وصوب، ونحاول الخروج منها باحثين عن مخرج من القصة، أي عن النهاية. وفي حبسنا هذا، حبس الانتظار، لا نملّ، بل بالعكس، نتسلى باللغة والحبكة الرائعة التي يكتب بها زوسكند نصّه.

أما في الحكاية الثالثة التي تحمل عنوان «وصية المعلم موسارد»، وهي وصية إحدى شخصيات جان جاك روسو في «الاعترافات»، فـ «يكشف» زوسكند رؤيته إلى نهاية العالم، أو علاقته بالوجود، بصفته عدماً يلتهمنا. فهو في هذه الحكاية، يطلعنا على سرّ اكتشفه المعلم موسارد، وهو أن العالم صدفة كبيرة سوف تطبق علينا وتخنقنا. ففي خلال عمل موسارد في حديقته، وحفره الأرض هناك، يكتشف أن تحت الأرض طبقة صدفية. وعندما ينطلق للبحث في أماكن أخرى، يكتشف أن الأمر في كل مكان، أي أن الأرض كلها مغمورة بالصدف، وأن الصدف هي عنصر تكوّن الأرض، وعنصر زوالها أيضاً وكما في الحكايتين السابقتين، يسرف زوسكند في شرح نظريته حول الصدف، ويتطرق إلى أدقّ التفاصيل في هذا الموضوع، ويرعب قارئه وكأنه لا يريده أن يكمل الرواية، خوفاً من اكتشاف ما هو أعظم في النص. لكن ليس في يد القارئ حيلة، إلا متابعة الرواية إلى آخرها، ليعرف مصيره، ومصير موسارد، الذي ينتهي إلى تأكيد أن لا خلاص ولا غوث، فـ «الصدفة العظيمة ستفتح جناحيها وتغلقهما على العالم وتطحن كل ما هو موجود». ويموت موسارد متحجراً، في شكل واحد، بزاوية قائمة، ولا يستطيع الناس دفنه إلا بحفر قبر يناسب جسده المتحجّر.

وإضافة إلى الحكايات الثلاث، يكتب زوسكند «ملاحظة تأملية»، على ما يسميها، وهي مقال في عنوان «فقدان الذاكرة الأدبية»، يتناول فيه تجربته مع نسيانه لما يقرأه أو ما كان قد قرأه من كتب في مكتبه، وأنه لا يستطيع الإستفادة من الكتب التي قرأها، لأنه لا يستطيع تذكّرها. مثلاً، يقول في ملاحظته التأملية: «ماذا أرى هنا؟ آه، نعم نعم. ثلاثة كتب عن سيرة حياة الكسندر الكبير. لقد قرأتها كلها ذات مرة. وماذا أعرف عن السكندر الكبير؟ لا شيء». بأسلوبه المحبب والساخر، يتناول إشكالية لا بدّ من أن كثيرين يعانون منها، وهي ليست مرضاً، بل مشكلة أساسية تتعلق بجدوى القراءة، أو عدم جدواها. إنه يضع القراءة على المحك، خصوصاً بالنسبة إلى الذين لا يستطيعون الاستفادة مما يقرأونه. ولكن، حتى الذين يعانون من هذه المشكلة، مشكلة النسيان، وفقدان الذاكرة الأدبية، فإن كثيرين قد يجدون صعوبة في نسيانه. إنه كتاب للذاكرة، ويبقى طويلاً فيها
8
حمامة زوسكيند

طالب رفاعي - الحياة

كنا جلوساً الروائي الراحل هاني الراهب وأنا نحتسي كوب شاي, وكان حديثنا يدور عن رواية (الرجع البعيد) لمؤلفها الروائي فؤاد التكرلي, حين تنهد هاني قائلاً:
-
يكفي أي روائي أن يكتب عملاً واحداً كرواية (الرجع البعيد), ليبقى خالداً الى الأبد!
إن الأعمال الروائية العظيمة إنسانية النكهة, تحفر مكانتها في لحم ذاكرتنا, مما يصعب معه انتزاعها منه, بل ربما تصبح عقبة في وجه تذوق أعمال أخرى مقارنة بها, والأمر يأخذ بعداً آخر بالنسبة لكاتب الرواية نفسه.
هناك أعمال روائية تبقى بحضورها الباهر تلاحق كاتبها, لا يجد لنفسه فكاكاً منها, حتى وإن أراد ذلك! وأكاد أكون واثقاً ان رواية (العطر... قصة قاتل) لكاتبها الألماني (باتريك زوسكيند) هي بالتأكيد رواية من هذا النوع, ستبقى تلاحق مؤلفها طوال حياته. وربما كان من الصعب عليه تجاوزها.

(
زوسكيند) المولود في عام 1949, في احدى قرى (بافاريا) جنوب ميونيخ, درس تاريخ العصور الوسطى والتاريخ الحديث في جامعات فرنسا والمانيا, وكان قد جاوز الثلاثين من عمره عندما طبقت شهرته الآفاق, بعد نشر روايته الأولى (العطر), التي صدرت العام 1984, وظلت أكثر من ثمانية أعوام تتصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعاً سواء باللغة الألمانية أو باللغات التي ترجمت اليها, وهو نجاح لم يتحقق من قبل لأي عمل أدبي في المانيا منذ صدور رواية (طبلة الصفيح) لصاحب نوبل الكاتب الألماني (غونتر غراس).
حين وقعت عيني على رواية (الحمامة), ولحظة قرأت اسم مؤلفها (زوسكيند), أسرعت يدي اليها, ودار ببالي السؤال: هل ستكون مثل رواية (العطر)? والتي أصبحت احدى العلامات المنعطف في تاريخ الرواية العالمية.
رواية (الحمامة), هي الرواية الثانية لزوسكيند, وتُعد رواية صغيرة جداً.
وتروي (الحمامة) قصة حارس في أحد البنوك (جوناثان نوبل) تنقلب حياته رأساً على عقب بسبب حمامة صغيرة, وقفت له بباب غرفته, ومن دون ان يصدر منها أي عمل عدواني تجاهه, وما تراه يمكن ان يصدر عن حمامة?!
الرواية تأتي على لسان الراوي الكلي العليم بكل شيء, سواء عن البطل أو عن غيره, وإذا كان الراوي استطاع ان يبقى مختبئاً خلف صوته, فإن صوت المؤلف الحقيقي (زوسكيند), ربما أطل بقناعاته الحياتية, وفي أكثر من موضع. الرواية بطريقة سردها التقليدية ولغتها السلسة, تبدو سهلة الفهم, لكنها في الوقت نفسه, عميقة وبعيدة في مستواها الرمزي والفلسفي. فهي ترصد يوماً في حياة الحارس (جوناثان), لكنه ليس باليوم العادي, كما ان (جوناثان) نفسه ليس بالشخص العادي, فلقد أمضى العشرين سنة الأخيرة من حياته حارساً ملازماً أمام بوابة أحد البنوك خلال النهار, ومسرعاً كان يعود ليختبئ في غرفته بمجرد ان يهبط المساء. غرفته, أو جحره, أو عالمه الخاص, الذي يحتمي به في وحدته, متحصناً ببعده عن أي بشر, وعن أي علاقة تربطه بأي مخلوق! الرواية تصف حال الرعب التي تجتاح (جوناثان), لحظة يفتح باب غرفته قاصداً الحمام ليرى تلك الحمامة متسمرة تنظر نحوه. أي خوف ذلك الذي زلزل عالم الرجل? ولماذا يرتجف رجل, حارس بنك مسلح بمسدس, من رؤية حمامة? وهل الى هذه الدرجة تدجن المجتمعات الغربية بقسوتها ولا انسانيتها وماديتها روح الإنسان كي يغدو كائناً ترتجف فرائصه لمنظر حمامة? وأيهما الحمامة هنا ورمز السلام? هل هي تلك المخلوقة الصغيرة منتوفة الريش? أم هو ذاك (الجوناثان) الخائف المبتعد عن العالم? الذي يسرع لحشر أغراضه الصغيرة في حقيبة يده, تاركاً غرفته ومستأجراً غرفة في فندق مجاور, هرباً من نظرة تلك الحمامة الطارئة!

ان الرواية المعاصرة كجنس أدبي أثبتت انها الفن الأكثر ملاءمة للقرن الذي نحيا, ولقد دان لها ذلك كونها تحمل في جزء منها تفسيراً للحظات معيشتنا, وتساعدنا على فهم ما يدور حولنا وتفسيره, وبالتالي تمد لنا يد العون لنعيش متوازنين على عارضة يومنا. ومن هنا تأخذ مكانها ومكانتها.
الحارس في رواية (الحمامة) هو إنسان القرن العشرين, فلقد عاش طفلاً مختبئاً في مزرعة عمه أثناء الحرب العالمية الثانية, بعدها أمضى ثلاث سنوات في أداء الخدمة العسكرية, ومع حلول عام 1954, بدأ بممارسة حياته الاعتيادية, وبطلب من عمه, تزوج فتاةً ما سبق له أن رآها, لتهرب منه بعد أقل من سنة مع تاجر فاكهة, ولتترك في نفس (جوناثان) ندبة ربما ستبقى تلازمه الى الأبد, كونها حفرت قناعته: (انه لا يمكن الاعتماد على الناس, وأنك تستطيع ان تعيش في سلام فقط بالابتعاد عنهم). لقد ترك (جوناثان) القرية, ليشد رحاله الى باريس, وهناك (وبضربة حظ) عثر على وظيفة حارس بنك, ليبقى يحتضن تلك الدرجات, أمام بوابة البنك الرئيسية, لمدة تزيد على العشرين سنة, مبتعداً عن أي تماس انساني, ولائذاً بوحدته وهدوئه وسلامه في غرفته الصغيرة, النائية عن أي حياة بشرية باستثناء أنفاسه.

هل سلام انسان القرن العشرين وربما الواحد والعشرين, بات مرهوناً بعزلته? وهل الناس هم الشر الأعم? وأي خوف ترسَّب في نفسية (جوناثان) ليورثه هذا الرعب القاتل? حيث يصبح منظر حمامة قادر على هز أوصاله! وأي معنى لحياة الإنسان حين يقضي ثلث عمره واقفاً أمام مدخل بنك, مع الحد الأدنى من الاجازات, والحد الأدنى من الأجر الذي كان معظمه يضيع في الضرائب والايجار وأقساط التأمينات الاجتماعية.

(
جوناثان) بعد هروب زوجته ونظرات أهل القرية اليه, رفض الدخول والتواصل مع أي علاقة انسانية, فعاش متصالحاً ومتسالماً مع نفسه, ولم يكن شيئاً ليعكر عليه رتابة يومه ونمطيته. وربما فسر ذلك هشاشة مشاعره وعواطفه حين لاذ ببصره وروحه وهربه, لحظة رأى ذلك المتشرد يعري مؤخرته ليبول في الطريق العام. (جوناثان), أحسَّ أن فعلة ذلك المتشرد تمس شيئاً في كينونته الانسانية.
(
جوناثان) ذلك النوع من البشر, الذي لا يطيق أن يرى منظراً بشرياً قاسياً أو شاذاً أو ارهابياً, لأن شيئاً من ذلك سيقع عليه, كونه يشترك مع الآخر بإنسانيته. وبهذا حدّث نفسه: (في المدينة لا شيء سوى القفل والمفتاح يمكن ان يجعلاك تبعد نفسك عن الآخرين, ومن لا يملك ذلك, من ليس لديه ذلك الملجأ الأكيد من أجل نداء الطبيعة... لا شك أنه أكثر البشر تعاسة وأحقهم بالرثاء... إذا كنت لا تستطيع أن تغلق باباً خلفك لتقضي حاجتك في المدينة - ولو كان باب حمام مشترك - إذا كانت تلك الحرية الضرورية الوحيدة قد انتزعت منك, حرية أن تنسحب بعيداً من الناس عندما تلح عليك الضرورة... فإن الحريات الأخرى كافة تصبح لا قيمة لها, وتكون الحياة بلا معنى. ويكون من الأفضل أن تموت
 9


الزمن الابدي في رواية العطر للكاتب الألماني .. باتريك زوسكند
( كانت أصعب معاناته تلك الكلمات التي لا تصف شيئا له رائحة , أي المفاهيم المجردة , وخاصة ذات الطبيعة الأخلاقية والمعنوية . لم يستطع الاحتفاظ بها كان يخلطها وغالبا ما يخطئ في استخدامها .. الله , الحق , الضمير , ...... الخ ) زوسكند / العطر

غالبا ما ينتخب الإنسان كماله ويسمو به نحو أعلى قمة في هرم الإنسانية المعبأ بها والمعبأة به , ذلك الفرد ذاته الذي قد تتملكه القدرة على أن يضع مشاعره رهن السيطرة والتحكم بها على نحو بعيد تماما عن الترهل والابتذال ذاك الذي غالبا ما يقود إلى أدنى حدود الإنسانية وتلك حالة كمالية تشق طريقها عبر قاموس الموت المهيأ للانجراف بعيدا عن مكامن العفوية والتطرف اللإنساني وكأن تكون قولبة متدنية في إطار إنساني صارم .

إن انصهار الذات في بوتقة المشاعر المتأججة غير الموجهة يمنحها شيء من العبث اللذيذ الذي يساعدها على الاستمرار دون تجديد أو قطف مما يستدعي السيطرة على مكابح هذا الاندفاع كلما سنحت الفرصة لمنح هذا الهيجان صفة العقلانية المتفردة في بني البشر .

مثل كل القرارات والمقاصد الأخرى وقف جان بابتيست غرينوي موقف الند من الحياة واتخذها عدوه الأوحد في عصر ( لم يخلو فيه من النوابغ والسفلة ) على حد قول الكاتب زوسكند .

لم تكن رواية العطر للكاتب الألماني باتريك زوسكند والصادرة عن منشورات الجمل مجرد قصة سردية لرجل تدين له الحياة بالبؤس الكامن في قوسي حياته منذ أول صرخة شرسة أطلقها في الحياة لتصم أذن العالم وتكون صرخة الوصل بين أمه وحبل مشنقتها .

هي رواية ابرز فيها الكاتب ثقافته اللغوية بثراء مختلف وضالع , في لغة حديثة جدا تتخللها تفصيلات عميقة للصور تمنح القارئ شيء كبير
من الرؤى والرؤيا .

غرينوي , العطار الذي اثبت للعالم إن الإنسان له أن يجتاز حدود المعهود والمؤتلف إلى ما لا يدركه إلا صاحب الشأن ذاته والذي تراكبت في مجرى حياته كل الاختلافات غير المألوفة ليعمل على إذكاء حاسة مغايرة لما اعتاده البشر واعتمدوا على تحديد هويات الأشياء من خلالها كالنظر والسمع فاتحا الطريق لحاسة الشم لتكون دليلا صارما لا يخطئ في تقدير المحسوسات والانطباعات . وتلك فلسفة أتقنها غرينوي واقتاده انفه ليكون القاتل الغريب الذي يقع الناس في شركه ليصبح الإله القاتل .

تلك الرائحة التي انبعثت من فاقد لأي شذرة خبيئة من رائحة الإنسان ولكل معايير الإنسانية منحت الآخرين طمأنينة كالتي يلدها وعي القوة الذاتية للفرد الذي يقر بأنه ( رأى بأم عينيه ) .

لم يمنحه الاحساس بالسمو أي معنى للسعادة وحينها ادرك فقط ان السعادة لا تكمن الا في الانسانية التي تميز الذوات البشرية عن غيرها وان كل فعله لم يشكل اهمية تذكر .

عاش في القرن الثامن عشر كأحد أهم النوابغ والذي لا يقل عنهم سفالة وعنجهية واحتقارا للإنسانية إلا إن اسمه توارى ليس لسبب أكثر من أن نبوغه كان في حقل الروائح الطيارة التي تطايرت مع تعاقب الأزمان وفقدت طيبها مخلفة النتانة في كل مكان .

لقد افلح كاميران حوج في نقل الفلسفة العميقة لزوسكند بدقة فسحت الطريق للقارئ لان يكون شريكا للكاتب في تتبع الأحداث وإبداء التوقعات التي يفاجئنا الكاتب دائما خلافها ومع ذلك يمنحنا فضيلة الرضا عبر الفشل وطمأنينة المعرفة المكتفية بذاتها .

11

استفهامية الواقع في روايتي »العطر» و»الحمامة»
2008-07-31
عبدالكريم يحيى الزيباري*
الروائي الألماني باتريك زوسكند، اختار فرنسا مكاناً لرواياته، كما في رواية «العطر»، ورواية «الحمامة» أيضاً.ورغم مشترك الفضاء ،فإن الروايتين ينفصلان في كثير من المناحي .
كل شيء يتسم بالغرابة الشديدة التي تستثير الخيال في أدب زوسكند، فبعد قصة القاتل باتيست غرينوي الذي لديه حاسة شم خارقة، يستطيع بموجبها أن يتنبأ بالمطر، وبمجيء أحدهم قبل أن يصل بأيام، ويكشف عن المكان الذي تخفي مربيته مالها وهي تغيره كل حين، حتى نسيت، فعرف من رائحتها أنَّها حزينة من أجل المال فأخبرها بمكانه، وهو يقتل الفتيات من أجل اختزال رائحتهنَّ، هذا هو بطل رواية العطر إنسان متوحِّد ينحصرُ بشكلٍ صارم في ذاكرة أنفه الخارق، ويأسره طمعهُ في اكتشاف روائح جديدة، في مفارقة عالمٍ ليس فيه ثمة إلا ألوان وأصوات وروائح، وهو بالتأكيد شخصية فوق الخيال، غرينوي (كان طماعاً. كانت غاية رحلات الاصطياد لديه أن يملك جميع ما في العالم من روائح وشرطه الوحيد أن تكون الرائحة جديدة، باتريك زوسكند- العطر- ترجمة كاميران حوج-2007- دار الجمل-كولونيا -ص43). وبعد أن قتل 25 صبية بريئة عذراء، يشعر غرينوي بانتصاره الكبير في السيطرة على عقول الناس الذين جاؤوا يدفعهم الحقد والكراهية لرؤية إعدام القاتل، لكن المفاجأة كانت بتحول مسرح غراس (كانت العاقبة أن انقلب إعدام أحد أسفل المجرمين في ذلك العصر إلى أعظم حفل خلاعة يشهده العالم منذ القرن الثاني قبل الميلاد ص247). وفكرة صناعة عطر أو عصا سحرية أو خاتم أو أي شيء آخر، لتجعل الآخرين يطيعونك ويحبونك مازالت تراود الإنسان منذ القدم، واختصَّ بذلك عالم السحر والشعوذة، ومازال إلى يومنا هذا من الأغنياء الساذجين الذين دفعوا آلاف الدولارات لشراء عرج السواحل أو غيره من أساطير السحر.
هذا ما حدث في العطر لكن ما يحدث في الحمامة، فمختلفٌ وأخفُّ وطأة، ولولا العطر لما قُرِئت الحمامة، ليس لأنَّها مملة، بل لأنَّها أقل روعة بكثير، ورغم أنَّه اعتمد آليات متقاربة مع العطر، فالرواية تحكي قصة شخصية غريبة منذ ولادته، جوناثان نويل الصبي الذي تموت أمه ثم أبوه، فيرحلونه من القرية إلى عمه في الجنوب (واستقبلهما عمٌّ لم يشاهداه من قبل في محطة كافايون قبل أن يأخذهما إلى عزبته قرب ضيعة بوجيه في وادي دورانس ويخبئهما حتى نهاية الحرب كي يعملا في حقول الخضار، باتريك زوسكند- الحمامة- ترجمة كاميران حوج- ط1-2007- دار الجمل-كولونيا-ص6). ثم التحق بالجيش وتجنَّد ثلاثة أعوام في الجيش في بداية الخمسينيات، (أمضى العام الأول في التعوّد على حياة العسكر الكريهة، وفي العام الثاني شُحِنَ إلى الهند الصينية، وفي الثالث بطلقة في القدم وأميبيا في المشفى الميداني، عندما عاد في مطلع 1954 إلى بوجيه كانت أخته قد اختفت وقيل إنها هاجرت إلى كندا، طلب منه العم أن يتأهل وعين له فتاة اسمها ماري باكوشه، سمع جوناثان الأمر وأطاع بيد أن ماري أنجبت بعد أربعة أشهر غلاما ثم هربت في الخريف نفسه مع تاجر خضار تونسي) فهاجر إلى باريس وعمل حارساً في أحد المصارف، وكلُّ هذه الأحداث الجسام (موت والديه- عمله وأخته في حقول الخضار- دخوله الجيش والحرب الفيتنامية- هروب أخته- عمله كحارس في المصرف 20 سنة هنيَّة ورضية مرضية لم يجرِ فيها أي حدث) خمسة أحداث جسيمة، كلُّ حدثٍ منها أو مجموعها يصلح لأن يكون رواية طويلة (كما وجدَ جوناثان أبوالهول والحارس، متشابهين، فقوتهما ليست أداتية إنما رمزية ص35). لكنَّه اختصر كل الأحداث بكلمات قليلة جداً، وأكدَّ على حدثٍ تافه جداً، عنوَنَ به روايته وبدأ به أيضاً (عندما قلبت فجيعة الحمامة التي ألمَّت به، كيانه رأساً على عقب كان جونثان نويل قد تجاوز الـ 50 من عمره، ويراجع الآن ذكرى 20 سنة هنية أمضاها دون أن تجري فيها أية أحداث). ثم يقول بعد موجز حياته (هكذا كانت الأحوال عندما ألمَّتْ به في أغسطس 1984 صبيحة يوم جمعة فجيعة الحمامة ص11). هذه القصة تذكرني بقصة أنطوان تشيخوف القصيرة: «الرجل المعلَّب»: وما العجيب في ذلك! الأشخاص الأنطوائيون بطبعهم والذين يسعون إلى الاختفاء خلف قشرتهم كسرطان البحر الراهب والقوقعة كثيرون في هذه الدنيا، وربما كان ذلك أحد مظاهر الردة الخلقية- تشيخوف- مؤلفات مختارة، المجلد الثالث- ترجمة دار التقدم - موسكو-1982-ص244). خاصةً وأن جوناثان فَقَد ثقته بالناس جميعاً بعد أن خدعته زوجته وصار محل سخرية القرية وصبيانها (إثر هذه الوقائع كلها توصَّل جوناثان نويل إلى عبرة مفادها أنَّ الناس لا يُوثق بهم، وأنَّ المرء إذا أراد السلامة والهدوء أن يبتعد عنهم، الحمامة-ص7) ويخرج بسبب خوفه من الحمامة يرتدي حذاء شتويا بفرو سميك ومعطفا شتويا ويحمل مظلة في يوم من أيام الصيف القائظ، ولم يكن يتصور يوما أن يحدث له شيءٌ ذو بال، وكذلك الرجل المعلَّب كان يخشى أن يحدث له شيء، ويخرج في الصيف بمعطف شتوي ومظلة، خوفاً من المطر، ويردد دوماً: «ولكن أخشى أن يحدث شيء».
جوناثان نويل حارس المصرف في باريس اعتاد روتين حياته اليومية بدوام من 8:15 إلى الـ 5 عصراً، ليندَّسَّ داخل غرفة صغيرة في إحدى العمارات العتيقة، بحمام ومرفق مشترك للطابق، ولأنَّه يعتمد حاسة السمع القوية لم يصادف أحداً في الممر إلا مرةً واحدة، شعر فيها بحرجٍ شديد وألم كبير كاد أن يقتله، يظل يتنصَّت واضعاً أذنه على الباب ولا يخرج إلا بعد التأكد من أنَّه لا يوجد أحدٌ في الممر، ويشتري غرفته بثمنٍ يفوق ثمنها، بعد أن صارت غرفته مؤثثة أثاثاً جيدا ليس يميزها عن الغرف الأخرى، المهملة.
وظهرت الحمامة في حياته يوم الجمعة من أغسطس 1984، وظهرت الحمامة في النص منذ ص 13 واستحوذت الحمامة على كلِّ شيء (لو وصف جوناثان حاله في تلك اللحظة لقال: «كدتُ أموت من الخوف» غير أنّ هذا الوصف غير صحيح فقد كاد بالأحرى أن يموت دهشةً، ص13) ولا أدري أين الخطأ؟ هل أخطأ الروائي الألماني زوسكند أم مترجمه السيد حوج؟ لأنَّ جوناثان كاد أن يموت من الخوف وليس من الدهشة، كما تؤكد ذلك جميع الصفحات الـ 66 اللاحقة (اضطرمت أفكار الرهاب المشوشة في مخه كسرب من الغربان كالحة السواد، ص14). ويفرُّ من غرفته ويستأجر أرخص غرفة في أرخص فندق، ويقضي نهاره كله متوتراً، شارداً، يخاف من كلِّ شيء، تنتابه حكة جلدية قوية وهو في عمله، يصل إلى حافة الانهيار ويفكر في الانتحار، وكلُّ هذا بسبب الحضور اللامعقول لتلك الحمامة في حياته الرتيبة، وهناك محاكاة لرواية المسخ الشهيرة لفرانز كافكا، التي انبنت أيضاً على حدث غير معقول، إلا أن حدث كافكا كان أكثر إيغالاً في اللامعقول، غريغوري سامسا يستيقظ ليجد نفسه قد تحول إلى حشرة مقززة، صورة أكثر من خرافية، لكن براعة كافكا السردية توصلنا إلى حافة التصديق بأنَّ ما حدث لكافكا هو شيء حقيقي، إلى نهاية القصة، لكن زوسكند ينهي روايته كما بدأها (كان الممر خالياً تماماً. كانت الحمامة قد اختفت، ص79) حيث قامت السيدة روكارد بوابة العمارة بطردها وتنظيف الممر من فضلات الحمامة وريشها.
هذا هو بطل رواية الحمامة إنسان انطوائي ينحصرُ في غرفته وحياته الشخصية بشكلٍ صارم، ويأسره خوفه من الناس، الذين لا يثق بأخلاقهم المبتذلة، في مفارقة عالمٍ ليس فيه ثمة إلا حمامة وغرفة المبيت وغرفة العمل وأفكار سوداء ورهاب مرضي ووساوس ومخاوف شديدة.
ويقول الشاعر أحمد مطر عن زوسكند (في المأثور عن إقبال الدنيا وإدبارها، يقال إنها «إذا أقبلت باض الحمام على الوتد، وإن أدبرت بال الحمار على الأسد»، ويبدو أن نشر رواية العطر قد آذن بإقبال دنيا زوسكند، فإذا بالناشرين، الذين أشبعوه عناءً قبل نشرها، صاروا يفتشون في دفاتره القديمة عن أعماله التي لم يحالفها الحظ بالرواج، ليقيموا لها وله مهرجانات حفاوة هائلة، برغم أن بعضها لا يتجاوز حجمه 80 صفحة).
*ناقد عراقي

 
12


باتريك زوسكيند:
«
الكونتــرابــاص»

تستمر «منشورات الجمل» في متابعة إصداراتها للكاتب الألماني باتريك زوسكيند، فبعد «العطر» و»الحمامة»، يقدم لنا كاميران حوج الترجمة العربية لنصه المسرحي «الكونتراباص» التي تروي عن عازف كونتراباص في الخامسة والثلاثين من عمره، يحاول أن يقدم ويشرح آلته للجمهور، مثلما يعرج على تاريخ الآلة، من دون أن ينسى علاقته بها.
مونولوغ جميل لواحد من أكثر كتّاب اللغة الألمانية سطوعا وحضورا، على الرغم من عدد كتبه القليلة، التي شكلت حدثا في المشهد الكتابي المعاصر.
http://www.assafir.com/Article.aspx?EditionID=1852&ChannelID=43611&ArticleID=2230
 

13
 
ابحث في كتابات



تكريس الدهشة .. أو صناعة الغرابة

قراءة في رواية ( العطر ) (*) للكاتب الفرنسي باتريك زوسكند



كتابات - زيد الشهيد



في تجليه شكلاً فنياً يمتص نسغ التأثير ليؤثِّر يسعى الخطاب الروائي إلى خلق الدهشة ونثرها كعطر يتسلل في فضاء الوسط القرائي اعتماداً على ذات منتجة تحتدم بنار الخلق لتشيع في فيوض  رغبة القراءة ؛ وكلما تقدمت تلك الذات نحو مرابض اللامألوف أو ارتقت إلى تخوم اللامعقول تمكنت من حيازة كسب الإعجاب ، وأثارت ذائقة المتطلعين إلى التغيير ، أو المنادين به صناعةًً لأدب عظيم . ذلك أن (( الأدب العظيم يحف باللامعقول )) (1) ، حيث الخروج على القوانين السائدة ليس بدافع الإساءة إليها بل بضرورة تجاوزها ، كونها قوانين لم تعد تلبّي رغبات أو تتماشى مع مَن يمتلكون الخيال ويتَّصفون بجرأةٍ لا تأبه للعاديات والتحذيرات ، منطلقين من أنَّ (( ليست هناك قوانين في نهاية المطاف مع كل ثراء ومهارة وجرأة خيال قرون كثيرة تقبع خلف أحدهم . )) (2).. إنهم حملة رسائل التغيير ممّن لا يتوانون عن الخلق الذي يبدو للوهلة الأولى غريباً ومحيراً باعثا على الرفض ولا يتراجعون عن مساحةٍ قفزوا إليها محملين بغيوم الإصرار على التقدم . فهم يرون أنَّ (( الحقائق لا تكفي ، لأنَّ الحلم يعمل )) على حد قول باشلار ، والمخيلة جياشة لأن تأتي بالمثير تجاوزاً على الحقائق حتى لتغدو بعد حين من القراءة أن الأحلام ذابت في بوتقة الحقائق أو أن الحقائق غدت من نافلة الأحلام . هكذا هو الأدب لا يقر التثبت على قوانين تنغرز في ارض معرفية لا يمكن تجاوزها ، ولا يتوقف عند حد . إنه المتحرك أبداً إلى أمام فلا يستقر ؛ لكأنه يميد على أرض هشة تتطلب منه عدم الاستقرار . وتلك من مميزات حيويته وصفات كونه متجدد يتوازى وزيادة الوعي دون أن يفقد البعد الإنساني  . توازي يتكرس ليصل إلى مضارب التأثير في المتلقي جاعلاً منه ذات متابِعة متحفزة . تدخل المحظور أو تقتحم ما ليس له تأثير في حقبة ما فتجعل منه مؤثراً وفاعلاً . وبذلك تتحقق الدهشة ويتمخض الإعجاب ، وتروح الذائقة تعوم على لذاذة من مد متعوي يقر بحفاوة العمل الأدبي وجماليته وسحره .

يحق لهذا الكلام أن ينطبق على رواية ( العطر ) للكاتب الفرنسي " باترك زوسكند "

فهذا الخطاب السردي الذي كتبه مؤلفه العام 1985  يأخذ مداه من مفردة العطر التي تشكل هيمنة كاملة على مجريات الأحداث ، جاعلاً كل ما تحت هذه الهالة السحرية غير المرئية رهنٌ في تأثيرها الغاوي والفاعل كتأكيد لأهمية حاسة الشم في حسم المديات الحياتية للإنسان على أنَّ " للعطر قوة إقناع أقوى بكثير من الكلمات . " ص91

خطاب يفجِّر ثورة الحواس ويقدم حاسة الشم لتكون شفرة مهيمنة في الخطاب وباعثة على ولادة أحداث تحقق نجاحاً أدبياً وتتحول إلى الفن السينمائي فتدفع إلى حيازة جائزة الاوسكار بفيلم يحمل اسم الخطاب الروائي ( العطر ) !.. وإذا كانت حاسة اللمس قد وظِّفت كثيراً في الأعمال السردية حيث الأصابع تتحرك لتجوس المخمل الوثير في تلك الستارة أو ذاك الفراش ، وتمر الأنامل  على ذلك الخد أو تلك البشرة من الجسد ؛ وإذا كانت للعين حصة الأسد الكبرى في التعبير السردي خصوصاً أو الأدبي عموماً ، وإذا كان السمع أخذ حيزاً لا يستهان به في الوجود الأدبي وأن ( الأذن تعشق قبل العين أحياناً ) فإنَّ حاسة الشم ظلت مهملة لا يأتي ذكرها إلا كأكسسوار مزوِّق في الوصف ولم يسبق أن تحفزت لتتقدم على أخواتها الحواس فتصبح مادة عمل كبير قفز ليكون في مقدمة الأعمال الأدبية . ولعل الرائحة الواسطة بين باعثها ومتلقيها قد تناولها بودلير في واحدة من أجمل قصائده ( نصف عالم في شَعر امرأة ) (3) حيث رجاؤه في أن يشم رائحة شعر الحبيبة التي يتوجه إليها، والتي سنتناولها لاحقاً ، لعل هذه الرائحة هي التي ألهمت زوسكند . ومن بودلير التقط شفرة الرائحة لتكون مفجرة واحدة من أجمل الروايات التي تتناول موضوعاً غريباً عماده الرائحة .



خطاب العطر الروائي



يذهب الروائي غائراً إلى النصف الثاني من القرن الثامن عشر زمناً ، وإلى باريس الفرنسية مكاناً ليجعل منهما حاوية لأحداث خطابه الروائي فيروح يقص علينا كيف ولد بطل روايته (جان بابتيست غرينوي ) لقيطاً في عهد شاعت فيه النتانة وانتشرت في أحياء باريس (( الشوارع تنتن بالروث ، الأفنية الخلفية تنتن بالبول ، سلالم البيوت تنتن بالخشب المتعفن وفضلات الجرذان ، والمطابخ تنتن باللفت الفاسد وشحم الحملان . من الردهات ، التي لا تهوّى ، كانت تنبعث رائحة الغبار المتعطن . من المخادع رائحة الشراشف المدهنة ، رائحة الأسرة النابضية الرطبة ورائحة المباول الحادة اللذيذة . كانت المداخن تنشر رائحة الكبريت ، المدابغ ، رائحة القوليات النفاذة ، المسالخ ، رائحة الدم المتخثر . كان الناس ضواري ينتنون بالعرق والثياب القذرة : من أفواههم تنبعث رائحة الأسنان النخرة ، من معداتهم تنبعث رائحة عصارة البصل ، ومن أجسادهم ، إن لم يعودا في ذروة الشباب ، رائحة الجبن العتيق والحليب الحازر ورائحة الأورام السرطانية . كانت الأنهار تنتن ، والساحات تنتن ، والكنائس تنتن ، الأكواخ كذلك ، والقصور . )) ص8

يعكس الاستهلال الذي جاء بهذا التوصيف المثير للواقع ذكاء صانع الخطاب في توريط المتلقي لمتابعة الأحداث ومعرفة مجريات حركة الشخوص وفحوى الرواية ، وقوة الإقناع الذي يجعله ( يجعل المتلقي ) يصدِّق أنَّ ما جاء كان واقعاً في ذلك العهد البعيد وعليه أن يحفِّز المخيلة لرسم الشيئيات والحيثيات والصورة بكاملها ليكون تحرِّكُه مع مجريات السرد مقبولاً ومثيراً ، وأن النتانة التي كانت شائعة وسائدة في كل مكان هي التي حفَّزت شم احدِهم ليكون بطلاً لخطابه ، بل أزاد على ذلك ليكون هجومه السردي على المتلقي أكثر أسراً واشد سطوة حيث جعلَ ولادةَ بطلِه وسط هذا الاحتدام من الرائحة وفي أكثر ألاماكن نتانة من مجموع أماكن النتانة التي وردت أعلاه . فقد ولد جان بابتيست غرينوي في شارع " اوفيرس (( حيث جاء لامه العاملة في احد دكاكين بيع السمك المخاض ، وكانت لحظتها تقشر حفنة من السمك . " وكان السمك الذي أقسمت الأيمان على انه اصطيد صباحاً من نهر السين نتناً إلى درجة أن رائحته غطت على ريح الجثث . إلا أنها لم تشعر لا برائحة السمك ولا بريح الجثث ، فقد كان انفها محصناً تحصيناً منيعاً ضد الروائح ، وعلاوة على ذلك تعاني ألماً في بطنها قتل فيها كل إحساس بالانطباعات التي يتركها العالم الخارجي في الحواس . )) ص9 و " تكورت تحت الطاولة ولدت هناك كما فعلت أربع مرات من قبل ، وقطعت حبل السرة بسكين تنظيف السمك . وفي اللحظة التي صرخ غرينوي قادماً إلى الحياة ذهبت الأم راحلة إلى الموت .

ترك صانع الخطاب بطله يعيش على هامش الحياة  . ولكي لا يتعاطف معه  المتلقي  أعطاه صفة القبح القادم من ملامح هلامية ؛ لكنه لم يتعمق في توصيف هذا القبح . لأن هذا ليس له تأثير على مجريات الأحداث ، وليس للجمال أو نقيضه حاجة في توظيفه فللرواية مسارٌ آخر غير هذين المنحيين .

يتشرب البطل مما لدى الحياة . تعطيه لمن يهبط في فضائها ويمشي على أديمها كمحصلة بشرية تعيش اليومي ،  لا على طموح مفترض بل على أبجدية أبدية تبدأ بالصباح والظهيرة والمساء يتخللها عمل وغذاء ؛ وليل فُرض للنوم ... هكذا كانت حياة جان بابتيست غرينوي الذي يشكّل لولب القص ، وما حوله لا تتصيرر إلا تأثيثات تكمِّل مجريات السلوك وعوامل مساعدة لاكتمالية الأحداث . فكل ما يرد من هذه التأثيثات ( زمكانية وشخوص ) تمر ولا تعود . كل واحدة منها تأخذ حيزاً من البعد الروائي والسرد وتنتهي حيث أحداث الخطاب لا تتم في مكان واحد إنما عبر ترحالات يتنقل عبره غرينوي من مكان لمكان . وفي هذه الأمكنة تنبثق شخوص سرعان ما تختفي من وجه الحدث لتبرز وجوه أخرى ... فمن الأم العاملة في تنظبف السمك في حارة ( ديزوينوسانس ) وهي أسوأ حارات باريس نتانة ورداءة وسحق إلى المرضع ( جان بوسي ) التي عهدت الكنيسة إليها بإرضاعه وتنشئته ، إلى ( مدام غايار ) التي تسلمته لتتولى مهمة إرضاعه بعد أن تخلت جان بوسي عنه معلنة هلعها من هكذا رضيع نهم يستحوذ على الحليب الذي في ثدييها ويسرق حصة أطفال يشاركون الرضاعة في الثديين ، إلى الدباغ ( غريمال ) الذي كان في حاجة إلى عمال صغار حيث رمته مدام غريمال لتتخلص منه ، إلى ( بالديني ) الذي صارحه غرينوي برغبته العمل لديه في محله الكبير  ومصنعه الشهير في إنتاج العطور ، إلى المركيز تاياد اسبيناس صاحب نظرية " محفز الموت الترابي (( التي تقول " أن الحياة تتطور على ارتفاع معين عن الأرض ، لان الأرض ذاتها تطلق على الدوام غاز عفن اسمه محفز الموات يعطل الطاقة الحيوية ويؤدي بها في النهاية إلى الشلل الكامل . ولهذا تسعى جميع الكائنات الحية للابتعاد عن الأرض ، أي تنمو مبتعدة عنها ولا تنمو فيها ، ولهذا فهي ترفع أسمى أجزائها في جهة السماء ، فترفع الحبوب السنابل وتحمل سوق الأزهار الوريقات والإنسان رأسه ، ولهذا عليها أن تعود إلى الأرض إذا غلبها العمر ودمرها الغاز المميت ، وهي تتحول بدورها بعد الموت إلى الغاز بفعل العفن . )) ص 152 ،  إلى  ( آرنولفي ) ، وهي أرملة " تدير محلاً لإنتاج وبيع العطور ، وأخيراً  ( أنطوان ريشي ) والد الضحية الخامسة والعشرين التي كانت خاتمة ضحايا غرينوي في مهمة تحقيق مأربه لاكتمال مشروعه العطري الذي وجد نفسه مساقاً لإنجازه بناء على حاسة محفّزة ميّزته عن البشر وقادته في النهاية إلى حتفه مقطعاً عظاماً وشظايا لحمية .

وعبر هذا الانتقال من شخص إلى شخص كان الانتقال معه أيضاً يتم من مكان إلى مكان . وفي كل مكان يترك هذا المخلوق الغريب والغامض حدثاً يحفر بصمة على جسد الخطاب لترتسم نافرة في ذاكرة المتلقي . فمن ( ديزينوسانس ) جوار المقبرة  التي بين شارعي ( اوفيروس ) و( دو لا فيرونري ) في باريس حيث ولد ، إلى مجمع ( سانت ميري ) للقطاء خارج باريس حيث عهد به إلى مربية رفضته لأنها صارت ترتعب من إرضاعه " فقدت عشرة أرطال من وزني رغم أني آكل طعام ثلاثة . " ص13 ، إلى محلة ( فوبروغ سانت أنطوان ) في الضفة الثانية خارج باريس  ، إلى شارع ( دو مرتيرين ) قرب النهر حيث الدباغ غريمال ، إلى جسر ( أوشانج ) حيث بالديني يعيش بمحله الفخم وسط باريس ، إلى مدينة ( اورليان ) جنوباً ، إلى الجنوب عمقاً اعتماداً على " بوصلة انفه التي مكنته من تفادي المدن ، القرى ، المستوطنات " ص128 حيث جبال ( أوفيرني ) ، إلى الشرق مدينة ( بييرفور ) حيث احتضنه المركيز تاياد اسبيناس ، إلى ميناء ( لوغرو دي روا ) ، إلى مدينة ( غراس ) " عاصمة إنتاج وتجارب الطيوب والمواد العطرية الأخرى كالزيوت والصوابين التي لا يشق لها غبار . " ص176  ، إلى جزر ( ليرين ) حيث دير ( سانت هونورا ) الحصين مكان آخر فتاة تمكن منها ، وأخيراً إلى ( ديزينوسانس ) جوار المقبرة  التي يجدها تعج بـ (( أنواع الرعاع ، اللصوص ، القتلة ، العاهرات ، الفارين من الجندية واليافعين اليائسين من الحياة )) ص261 حيث الحتف الذي ينتظره .



الخطاب وخلفية صانعه :

--------------

لم يعتمد صانع الخطاب على مخيلته في صنع الأحداث وتفاصيلها فقط في مساره السردي إنما اعتمد على خلفية ثقافية تعبر عن إلمامه الكبير والواسع بصناعة العطور وعرف جزئيات  صناعتها والتعامل مع مواد وأدوات الصنع . فعلى امتداد جسد الرواية يتفاقم إعجاب المتلقي وهو يرى إلى الروائي يسكب معلوماته الوفيرة ومفرداته القاموسية لصناعة العطور القادمة من الدهون والشحوم والمعاجين والأعشاب في عمليات التسخين والعصر والتقطير والتبخير ، بالأدوات الداخلة في مراحل التصنيع (( آنية البخور من النحاس الأصفر ، قوارير وبوتقات كريستالية مع سدادات صقيلة من الكهرمان )) ، مع دوارق (( وأوعية وصناديق مغلقة بالشمع وشبكات ساخنة في الظل . )) ص104 إضافة إلى عشرات الأسماء القاموسية التي تتعلق بهذه الصناعة سواء أسماء الأعشاب أو الدهون أو عمليات التقطير  . فهناك على سبيل المثال (( قطَّر النحاس ، الخزف ، الجلد الحبوب ، وحجر الصوان ، قطَّر التراب الخالص . قطَّر دما وخشبا وسمكا طازجاً . قطَّر شعره وقطَّر أخيراً الماء )) و(( زيت زهيرات القراص وبذور الرشاد / ماء عطرياً من لحاء شجيرة بيلسان طازج وأغصان الطقسوس .. )) ص108 وانتزاع الروائح الطيبة من (( الصعتر والخزامى وبذور الكمون ))ص109 و (( هرس نوى اللوز المر في المعصرة ، سحق حبوب المسك ، فرم بصيلات العنبر بالفرامة أو برش جذور البنفسج )) ص103 وأيضاً (( دهون الشعر ، المعاجين ، المساحيق ، الصوابين ، المراهم ، الصرر العطرية ، شحوم الشعر ، ملمعات اللحى ، نقطة الخال ولصقات التجميل ،حنى مياه الحمام ، اللوسيون ، الغسول ، أملاح الاستنشاق ، خل المراحيض )) ص54 وهكذا ... !

وفي خضم هذه الأبجدية الهائلة من الروائح ومنتجات الروائح كان غرينوي يعيش حالة الهوس في التعامل مع الروائح . اكتشاف ما لم يكتشفه من قبل ، وإنتاج ما يريد إنتاجه حتى لو تطلب الأمر التعدي على الآخرين بارتكاب فعل القتل وهو ما بدأه ولمَّا يزل شاباً يافعاً عندما أجهز على فتاة حتى الموت ليمتص عطرها دون الاهتمام بجمالها ، فهو (( لم ينظر إليها ، لم ير وجهها البض الذي يغطيه النمش ، لم ير فمها الأحمر ، عينيها الخضرائين المتلألئتين ، فقد شد عينيه وهو يخنقها وكان كل همّه إلا يخسر ذريرة واحدة من عطرها . )) ص50

كان على صانع الخطاب أن يغدق على غرينوي صفة الشهوانية الجسدية فيذهب به إلى انتهاك عذرية الفتيات اللائي يقتلهنَّ ! كان عليه أن يُظهر شبقاً معجوناً بالهوس القادم من جمال أجساد الفتيات  وعذريتهن ! كان عليه أن يمارس سادية مشاهدة الفتيات يتعرين  أمامه ثم بعدها يرتكب فعل القتل . لكن صانع الخطاب نحا بعيداً عن توقع المتلقي ، آخذاً به إلى بقعة لا تدنو من الإحتمالية بأن جعل جُلَّ مراد بطله استخلاص الروائح إلى أخر ذرة من الأجساد المنتجة لها ، ووجهه صوب تكريس ذات لا تعيش إلا على رائحة ؛ ولا تصرف الفكر ينشغل إلا بالبحث عن رائحة ، ومن ثم العمل على استنشاقها لتشبع تلك الذات بما عطشت من اجله مثلما توجه صانع الخطاب إلى النأي عن استخلاص الروائح بغية جمع ثروة  كما يُخيّل للمتلقي أن يتوقعه ، ولا لسادية تبعث على تلذذ البطل في قتل ضحاياه ، أنما وجهه ليكون شخصاً عادياً يعيش حياة دون الفقر ، وبذات هادئة تبتعد عن التشفي . لكأن حاسة الشم التي يمتلكها هي التي تقوده لضمان استمرارية قدرتها على التواصل قديرة مكينة ، لا تضاهيها حاسة شم أخرى لأي مخلوق . حاسة لم تدفعه إلى أن يكون عنصراً يُشار إليه بالإعجاب ، أو بالحسد ، أو بالكبرياء إنما جعلته إنسانا هامشياً لا يُعتد به ولا ينظر إليه على أنه مفجِّر أحداث ، ومغيِّر أقدار ، ومُحدث انعطافات  تنحو بالمجتمع منحاً يتفاوت ومساره الاجتماعي السائد . فظل على امتداد مسار الرواية شخصاً يصنع الأحداث ولكن تحت ظل الهامشية ( فلم يخطر على بال احد أنه مُرتكب فضائع أفعال القتل ) ، مرتدياً أردية البساطة وسالكاً ( أمام مرؤوسيه في العمل )   سلوك المخلوق المثابر  المطيع الذي  تصل بعض سلوكياته غير المقصودة إلى اعتباره أبلهَ ، بليداً لا يصلح إلا ليكون عاملاً يصرف يومه بالمُجهد من الوظائف ، وبالضئالة من وقت الارتياح .

وكان العطر كمرائي يحقق غرينوي من خلاله نواياه في الوصول إلى ذوات الذين أمامه ليطيح بعاطفتهم ويتركها أسيرة رغباته ( كانت نساء السوق ، إذا شممنه يدسسن له الجوز والخوخ الجاف في جيوبه ،  لأنه يبدو في أعينهن جائعاً وعاجزاً )) ص193 ، مثلما استخدم روائح تماهيه عن الناس وتجعله يتمظهر بما ينوي فعله لتجسيد مآربه ، فالروائح (( يبدلها حسب الطلب كالثياب ، والتي سترته عن عيون الناس وتركته في سراب المجهول . )) ص193

العطر في زوسكند .. العطر من بودلير

يبدو أن العطر يدخل في جزئيات الحياة الباريسية .. مفردة تتراغى بهياجها حتى لتغدو هاجس كل فرنسي . فيه ومنه ينطلق ليس السارد في التوصيف فحسب بل الشاعر في التعبير أيضاً . العطر لدى الباريسي يدخل منمنمة حياتية تضمخ يومه وتشبع عاطفته ، تبرمج رغبته للحياة وتضمخ أمنيته بالأمل . وبودلير الشاعر الذي يعيش " سأم باريس " يتوه في موج العطر وهو يناجي الرافلة على سيل كلماته وخميلة روحه (( دعيني استنشق طويلاً ، طويلاً ، رائحة شعرك . دعيني أُغرقُ فيه كل وجهي ، كالضمآن الذي يغرق في ماء نبع ، دعيني ألوح به بيدي كمنديل فواح بالعطر ، كي انثر ذكريات في الهواء . آه لو تدرين بكل ما أرى ! بكل ما أحس ! بكل ما اسمع في شعرك ! روحي تسبح على العطر مثلما تسبح أرواح الآخرين على الموسيقى . )) (4) ، فيعيد إلينا اتجاه باتريك زوسكند في اختياره للعطر ليكون شفرة خطابه الروائي . وليعلمنا أن العطر باريس بكل غوايتها ودلالها وفتنتها وسحرها وحتى انحطاطها ونتانة بعض من دروبها وأزقتها وأحيائها في زمن ما من قرون ولّت . بودلير يدفع بمناجاته للتعاضد مع زوسكند ويقف إلى جانبه في إعطاء تلك الأهمية الكبيرة للعطر ليكون الشفرة الأولى في الخطاب أو هو نفسه كان المحفِّز لزوسكند أن يخلق من العطر خطاباً روائياً  محيراً يدفع إلى التساؤل كيف استطاع هذا السارد أن يفجر هذه المفردة ويوظفها في رحيل سردي ساحر امتزجت فيه الواقعية السحرية بالخيال المحلق بالمكان المتجسم بأحياء باريس وأماكن مترامية في فرنساً ، وبذلك الخيال الذي يدفع إلى التناص لشخص غرينوي وهو يهرب من واقع المدن إلى ذلك الكهف ليعيش فيه متوحداً مع ذاته فقط ، وينأى عن كل ما هو بشري . يرى باللمسات البشرية وأنفاس البشر تلويثاً للطبيعة ؛ وما الطبيعة إلا النقاء ؛ وما البشري إلا من صميم التلوث وأبجديته التي دمّر من خلالها مدهشات الطبيعة وهتك الصفاء ، سارقاً جذل العصافير وانطلاقة الحمام ، مطيحاً بهيبة الزروع اليانعة  ومكرّساً افرازات المدن الفاغمة . لا يلتقي السكون إلا ليزرعه بالضجيج ، ولا يحاور النور إلا ليرشقه بالعتمة . فترتسم تأثيرات التناص على الروائي معيداً إلى الذاكرة القرائية حياة روبنسن كروزو        الذي عاش في جزيرة نائية خلق من خلالها مبررات الحياة الطبيعية . وإذا كان كروزو وجد نفسه مجبراً على العيش في الجزيرة النائية فإن غرينوي اندفع إلى جبال ( أوفيرني ) وذلك الكهف الذي على سفح واحدة من تلك الجبال بمحض رغبته رغم أن كليهما تاقا في النهاية إلى الخروج من قوقعة العزلة إلى مدار الحياة الاجتماعية . اندفع بدافع داخلي تمثل بكرهه للبشر ، أولئك الذين لم ير منهم غير إعاقة حياته التي يفترض أن تعاش كما يعيشها الغير ممن لهم أسرة وكيان . لذا يستطيع المتلقي اكتشاف ثمة توازٍ في حياة غرينوي يتمثل الإفصاح به عندما كبر واستخلص ما يمكن استخلاصه من روائح تمثل بعضها في إبداء الناس عطفاً ومودة له ، يقابلها امتعاض وازدراء منه تجاههم .

(1)          فالتعاطف معه  تجلى ساعة الإعداد لإعدامه في ساحة ( غراس )  ولهفتهم بدافع الانتقام  للتشفي منه بعدما جرَّعهم الهلع بقتل بناتهم بخفة تقرب من السحر والخيال إذ نثر قطرة واحدة من العطر الذي جمعه في قارورة المُبتغى تلك اللحظة فأحالهم من موتورين ناقمين إلى محبين رائفين ، يغدقون عليه حنانهم ومودتهم ويرون فيه الشاب الذي ينبغي أن ينال العطف الأبوي لدى الآباء ممن كانوا يتجمهرون في ساحة الإعدام ، والامومي من الأمهات اللائي ثكلن بقتل بناتهن وتمنين أن يرين القاتل مقطوع الرأس يُشوى بالنار السعير المُعدّة له منذ الصباح ، أو ممَّن تخيلن بناتهن يقعن بيد هذا السفاح القاتل ، وكذلك العطف الأخوي من الذكور والإناث ممن يقاربونه العمر . فباتوا يشعرون وهم يبصرونه ينزل من العربة التي احظروه فيها مرتدياً قفطاناً أزرق ملاكاً وليس مجرما قاتلاً فـ (( حلّت فيهم المودة ، الرقة ، الحب الطفولي " و " لم يرغبوا في مقاومة مشاعرهم .كانت حالهم بكاء لا يستطيعون الوقوف بوجهه ، نحيباً مكبوتاً طوال الوقت ، يتصاعد من القلب ويسحق كل مقاومة ، يسيحها ويموهها . صارت الناس ضعيفة ، مذابة الروح والجسد ، أمواهاً وغمراً ، لا تشعر إلا بقلوبها علقة تخفق في الباطن وسلموها ، كل واحد منهم ، كل واحد منهنَّ بيد الرجل الصغير في القفطان الأزرق ليفعل بها ما يشاء ، فهم أحبوه . )) ص245

(2)          أما البغض من جانبه عليهم فتمثل لحظة أبصرهم في خنوع ودعة وابتذال يستنجدون عطفه فابتسم ابتسامة (( شماتة قبيحة وهازئة ، تعكس كل نصره وكل احتقاره )) ص247 ؛ و(( ود لو يكنسهم عن وجه الأرض )) ص249 ، و (( تمنى لو يلاحظوا كم يكرههم )) ص249 . إنه شعور إعادة التقدير لذاته المسحوقة وتشفيه من محبطي حياته .


الخطاب .. الخاتمــة


وفي دورة الحياة المليئة بالأمكنة وبالأحداث والجرائم ضرب صانع الخطاب ضربته الذكية عندما جعل الحاضنة الجغرافية التي ولِد منها ( ديزوينوسانس ) هي نفسها التي تؤرخ لاختتام حياته ... مخلوق جاء من رحم النتانة والفساد يتقرر مصيره في نفس الرحم النتن الفاسد ، لكأنه أراد تذكرينا بأسطورة سيزيف التي تتمحور على دوامة الجدلية الوجودية وإن كان الموضوعان يتفاوتان في دلالاتهما ومدلولاتهما مثلما أراد الإشارة إلى تأثير العطر في حياة المخلوقات ولا سيما الإنسان الذي يجعل منه شفرة لترجمة حامل العطر حيث حاسة الشم التي تشكل أيقونة تمييز بين مجمَّع للنتانة وحقل للورود .

إنَّ البحث عن شفرة ودلالة هذا الخطاب لا تبتعد كثيراً عن تأويل أن بعض الناس تسيرهم أقدارهم المدونة على صحائف تاريخهم حتى قبل أن يولدوا ؛ وأنَّ هذا العطر ما هو إلا صورة متماهية للقدر الذي وجد غرينوي حياته مساقةً بلا إرادة منه لملاحقته بتأثير حساسية الأنف الذي جعله يمتلك كل مقومات التحاور مع متواليات العطر بمسمياته الوفيرة ويدرك أن الناس في محصلة المسار الطبقي تعيش على هامش الغواية التي تفعل فعلتها على الآخرين والتي قد يستخدمها إنسان يحمل مبررات الغواية ليجعل من هؤلاء الناس دمى تتحرك بمشيئته ، وتتحول أحجار شطرنج ينقلها أنى يشاء ليضعها على أي مربعٍ يشاء .



(*) العطر – باتريك زوسكند – ت . كاميران حوج – منشورات الجمل – 2007
(1) انظر قراءة نابوكوف لرواية ( المعطف ) لغوغول – ت ناجي الحديثي – الثقافة الأجنبية – العدد الأول 1997 – دار الشؤون الثقافية – ص35
(2) انظر ميرفن بيك وثلاثية تاتيس – س.ن مانلوف – ت كاظم خلف العلي – الثقافة الأجنبية – العدد الأول 1997 – ص72
(3) و (4) سأم باريس -  مجموعة قصائد نثر لبودلير – ترجمة بشير السباعي – دار الجمل -2007
  ص49
العراق

 

14
 

عالم الروائح بين المحايثة والمفارقة
رواية (العطر) نموذجاً
عبدالكريم يحيى الزيباري

حيثُ ينحصرُ البطل بشكلٍ صارم في ذاكرة أنفه الخارق، ويأسره طمعهُ في اكتشاف روائح جديدة، في مفارقة عالمٍ ليس فيه ثمة إلا ألوان وأصوات وروائح، ربما نجح أورهان باموك في اختزال العالم إلى ألوان، ثمَّ إلى اللون الأحمر، في روايته(اسمي أحمر) لكنَّ باتريك زوسكند سبقهُ حين حاول اختزال العالم إلى روائح، ثمَّ اختزالها إلى رائحة الإنسان، الأنف الذي لا زال الإنذار الأول في حال تسرب غاز سام، أو دخان حريق، ولبعض الروائح ذكريات حسنة أو سيئة، ومن تجربةٍ مثيرة: حُقِنَ مجموعة متطوعين من الذكور الأصحَّاء بحقنة أنسولين مرة واحدة ولمدة أربعة أيام، بحيث يصل مستوى الأنسولين إلى أعلى مستوى ممكن، دون انخفاض سكر الدم، وفي الوقت نفسه كان يشمُّون رائحة معينة، في اليوم الخامس أطلقت الرائحة دون حقنهم بالأنسولين، وعند قياس مستوى السكر وُجِدَ أنه مشابه لتركيزه عند حقن الأنسولين، وهذه التجربة عمرها آلاف السنين، حيث بدايات السحر في وادي الرافدين، حين يريد الكاهن تكريه رجلٍ ما بامرأة ما قد تكون زوجة أو ضرة، ينصح بذكرها أمامه حال بث بعض الروائح الحادة والقوية التي يكرهها كرائحة البصل أو الثوم أو أية روائح كريهة أخرى، وبتكرار التجربة سيرتبط ذكر هذه المرأة بهذه الروائح الكريهة فيكرهها وهو لا يعرف سبباً حقيقياً، وغالباً ما يرى أحدنا شخصاً ما فيكرهه من اللحظة الأولى أو يرتاح له وهو لا يعرف السبب، واضطراب حاسة الشم، يؤدي إلى أمراض نفسية أهمها الاكتئاب، ويزور الأطباء كل عام في أمريكا أكثر من مليوني شخص، لاضطراب حاسة الشم.
سرد يتتبع جان باتيست غرينوي من ولادته إلى وفاته، الذي ولد دون رائحة شخصية، لكنَّه يصير معجزة في تفوق حاسة الشم، حيث تختزل ذاكرته آلاف الروائح، ويتلمَّس طريقه في الظلام بواسطة أنفه، الكاتب زوسكند ولد عام 1949، وله العديد من الكتب والمسرحيات، نشر رواية العطر عام 1985، ونالت شهرةً واسعة، وترجمت إلى العديد من اللغات، محاكاة لعموم الجنس الروائي الذي لا زال في تطوّر مستمر، وفي رحلة تطوره، فإنَّ رواية العطر ربما كانت قفزة إلى الأمام، لا تختلف كثيراً عن مسخ كافكا، ومائة عام من العزلة، عالم العطَّارين، وعمليات التقطير بالشحم، ومن ثم تحنيط الرائحة الخاصة بكل زهرة وكل نبات ثمَّ يبدأ بقتل الحيوانات، جرو صغير، ثم يتطوَّر أنفه الخارق وهو يعمل عند الأرملة آرنولفي إلى اختزال رائحة كل جماد من حجارة إلى زلاجة الباب النحاسية، ثمَّ يضع الشمع بيد عجوز متسولة لتمرره بجسمها ليأخذ بعض الروائح منها، ثم يضع الشحم على كراسي الكنيسة ولمدة قداسين يفوز بروائح كثيرة، ثمَّ يبدأ بقتل صبية تقترب من الحيض، كما فعل وهو لا زال صغيراً، أسرار بيع العطور والعطارين والمنافسة بين بيليسيه وبالديني، في مستهلِّ الرواية يقول زوسكند(في عصر لا يفتقر إلى النوابغ والسفلة، عاش في فرنسا القرن الثامن عشر رجل من أكثر الكائنات نبوغاً وسفالة. رجل ستسرد حكايته هنا.كان اسمه باتيست غرينوي. وإذا كان اسمه قد صار نسياً منسياً،خلافاً لأسماء النوابغ السافلة الأخرى على غرار دي ساد،سانت جوست، فوشيه نابليون وغيرهم، فليس لأنه كان دونهم عنهجية واحتقاراً للإنسانية ولا أخلاقية، بل لأن نبوغه وولعه حشرا في حقل لا يترك في التاريخ إلا النزر اليسير من الأثر، ألا وهو حقل الروائح الطيَّارة). البطل هنا يعاني حالة مرضية هي فرط الشم أو زيادة قوة حاسة الشم Hyperosima والتي تتميز بازدياد حاسة الشم، ولكنّ الزيادة هنا خرافية لا يكاد يصدقها عقل، ولم يثبت وجودها حتى عند الكلب البوليسي الذي يستطيع تتبع آثار الجريمة ومعرفة منفذها عن طريق الشم حتى بعد 24 ساعة من وقوع الجريمة، علماً أنَّ للإنسان الطبيعي حوالي عشرة ملايين مستقبل شمِّي، بينما لدى الكلب الألماني شيفيرد حوالي ملياري مستقبل شمي، فمن الممكن أن نتصور رجلاً يؤتى حاسة شم قوية، كموهبة من الله، فيعقوب عليه السلام عرف رائحة ولده يوسف من قميصه بل شمَّها وهي على بعد أميال، يقول زوسكند عن غرينوي وهو في الثامنة(يعلن عن زيارة شخص ما قبل أن يصل بوقت طويل، أو يعرف بقدوم زخة مطر قبل أن تلوح أي سحابة في السماء/ العطر ص33).
غرينوي في أول صرخة أطلقها تحت طاولة تنظيف السمك في السوق، حيث ولدته أمه، فضحها، وهي التي قتلت أربعة من أشقائه، حيث تلدهم وترميهم في أوساخ محل لبيع وتنظيف السمك، حسبته ميتاً لكنه صرخ فاكتشفوا أنَّ أمَّه فعلت به ذلك، واعترفت بأربعة جرائم أخرى، وهكذا تدحرج رأس أمِّه من المقصلة، وفي ص229 من الرواية يوجز السارد فصول روايته(تذكر محطات حياته منذ بيت مدام غايار.. تذكر الدباغ غريمال، جوزيبه بالديني، الماركيز تاياد اسبيناس) أما مرضعته الثانية مدام غايار فهي قد فقدت حاسة الشم نتيجة ضربة بقضيب حديدي على جبهتها، ولكنَّها تتقزز منه لأنَّه أخبرها بمكان نقودها، وهي التي تغير المكان كل فترة، حتى نسيت المكان، فأخبرها غرنوي(ومرةً عندما أخفت نقودها جيداً بحيث لم تعد نفسها تعرف أين تجدها، فقد كانت تغير المخبأ على الدوام، أشار إلى مكانها خلف دعامة الموقد دون أن يبحث ثانية واحدة... إنه لا يرى كل تلك الأشياء لا يراها بالعين، بل يشمها بأنفه..انقبض صدرها. وانقبض أكثر، بل لم تعد تطيق الحياة تحت سقفٍ واحد مع شخصٍ وُهِبَ القدرة على رؤية النقود المخبأة بإتقان خلف الجدران والدعامات..صبت إلى التخلص منه..كان غرينوي بلغ الثامنة/العطر ص33). وهؤلاء كلهم قضوا نحبهم بشكل مأساوي، وكأنَّ غرينوي كان يساهم في قتلهم، فبمجرد مغادرته الدباغ غريمال، سقط في النهر سكران غير مأسوف عليه(ص95)، ولكن وهو عامل دباغة، وبعد أن خزن آلاف الروائح بدأ في البحث عن روائح جديدة(كان طماعاً. كانت غاية رحلات الاصطياد لديه أن يملك جميع ما في العالم من روائح وشرطه الوحيد أن تكون الرائحة جديدة/ العطر ص43)، (في الأول من أيلول 1753 في عيد التاج، قامت بلدية باريس بعرض للألعاب النارية..كان على وشك أن يترك الحفل الممل، حين حملت له الريح شيئاً ضئيلاً.. طيف عبير..لاحقه غرينوي بقلب مضطرب منقبض فقد كان يعلم أنه ليس هو من يتتبع الطيب، وإنما الطيب أسره وشدّه إليه طاغياً... ربما كانت في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمرها..تجمدت هلعاً عندما شاهدته، فبقي له الكثير من الوقت ليضع يديه في خناقها.. شد عينيه وهو يخنقها وكان كل همه ألا يخسر ذريرة واحدة من عطرها/العطر ص45-50). هذه كانت أول جريمة، ثمَّ توقف عن الجرائم حتى وصل إلى غراس فقتل 25 صبية حسناء لا تختلف عن الأولى. وفي الليلة التي غادر فيها العطَّار بالديني، (انهار جسر أوشانج لسبب مجهول..سقط منزلان في النهر ولم ينج من قاطنيهما أحد.. ضاع كل شيء المنزل، المحل، المواد الخام، الجثث، خزانة النقود/العطرص122). وبعد أن تخلص من بالديني ذهب إلى جبال أوفيرني(ص129) وعاش سبع سنوات في كهف حياة بدائية يقتات على الطحالب والأفاعي التي يصطادها ليلاً بواسطة أنفه، وعاش عالماً متخيَّلاً كان هو الملك فيه، وحوله الخدم والحشم، ثم رأى كابوساً (كان عليه أن يتنفس الضباب، وكان الضباب كما قيل رائحة، كان الضباب رائحته. رائحته هو كان الضباب/العطر-ص145). ولحاسة الشم تأثير كبير على المزاج والعواطف، فالروائح الطيبة تؤدي إلى زيادة الشعور بالسرور، وتؤدي الروائح المزعجة إلى شعور بالضيق والتوتر. بعد سنوات العزلة السبع، عاد إلى المدينة ليجد فيه الماركيز تاياد اسبيناس ضالته ليبرهن نظريته «محفِّز الموات الترابي» وكما يحدث له في جميع محطَّات حياته يمرض، لكنَّه عند الماركيز يفتعل هو المرض(افتعل غرينوي الدوار وتظاهر بالوقوع وكأنَّ قواه خارت وتساقط على الديوان كمن يختنق. جنَّ جنون الماركيز. صرخ بالخدم طلب المراوح اليدوية والمحمولة،.. ركع بجانب غرينوي.. وناشده، توسل إليه أن يقف، ألا يلفظ أنفاسه الآن، بل ينتظر إذا أمكنه حتى بعد غد، فبقاء نظرية محفز الموت مرهون بحياته/العطر ص157). وبعد ذلك يفر غرينوي من الماركيز(وعليه أمر الماركيز بنشر إشاعة مفادها أن غرينوي غادر مونبلييه باتفاق معه ليسافر إلى باريس في شؤون عائلية..أراد الشيخ البالغ عتبة الثمانين(الماركيز)أن يحمله المريدون إلى القمة التي يبلغ ارتفاعها 2800 متر ليخلو هناك ثلاثة أسابيع في الهواء الحيوي المنعش والقارس لكي يظهر من الجبل في ليلة الميلاد شاباً في العشرين..في ليلة الميلاد خاب أمل الحواريين في عودة الماركيز الغائب فلم يرجع لا شاباً ولا عجوزاً/ العطر ص171).
ومن حيث المفارقة، يتدخل بين الفينة والأخرى كما يفعل ديستويفسكي في نصوصه معلناً عن نفسه بقوة(ولأنَّ مدام غايار تترك القصة في هذا المكان ولن نصادفها في المستقبل أيضاً، فلا ضير أن نصف موتها ببضعة جمل/ العطر ص34). والسارد يعتمد حاسة الأنف دون غيرها ويتتبع الروائح الموازية للأحداث والشخصيات والأماكن، ولا يصف الأماكن والأشخاص إلا من خلال روائحهم، (الشوارع الخلفية تنتنُ بالبول..والمطابخ تنتن باللفت الفاسد وشحم الحملان/العطر-ص7). ولقد نوَّه الكاتب بالاضطهاد الفكري الذي كانت تمارسه الكنيسة في العصور الوسطى، وهو شبيه بالاضطهاد الفكري الذي تمارسه بعض الأنظمة الشمولية اليوم، فإذا تكلمت عن ارتفاع أسعار الطماطم قالوا لك أنت ضد الثورة والحزب أنت تكره الزعيم، وإذا تكلمت عن الأبيض استنتجوا أنَّك ضد الأسود، فعندما أعادته المرضع جان بوسي إلى الراهب ترير، بحجة أنَّه عديم الرائحة، ولأنَّه امتص عظامها ودخلت في حوار عقيم مع الراهب، أراد الراهب أن يحسمه لصالحه بإقحام علم اللاهوت(ثمَّ إنَّك تزعمين.. أنّّه إذا لم تكن رائحة كما يجب أن تكون بحسب رأيك، فإنه ابن الشيطان... فكّرت المرضع، فلم يكن في صالحها أن يتحول الحديث بغتةً إلى استجواب لاهوتي لا بدَّ أن تخسر فيه، لذلك قالت متنصلة: لم أعن ذلك. أنتم تحددون إذا كان للموضوع علاقة بالشيطان أم لا/العطر-ص16).
بعد الماركيز توجه غرينوي إلى غراس حيث عمل لدى السيدة آرنولفي الأرملة كمساعد ثان بعد عشيقها ومساعدها الأول العملاق درو(ص183)، وبقي سنتين، ثم بدأت النهاية حيث ارتكب مجزرة الـ 25 صبية في أجواء بوليسية.
معرفة غرينوي بالعالم بدائية إلى حدٍّ أبعد من السذاجة، ذاتية، فطرية، بدون أية خلفية ثقافية، كالطفل الرضيع يميز أمه عن طريق حاسة الشم، وفي تجربة تم فيها غسل أحد ثديي الأم مباشرة بعد الولادة ، اختار 22 طفلاً من أصل 30 طفلاً الثدي غير المغسول عن طريق الرائحة، والعالم عند غرينوي مجموعة روائح متضافرة أو متناقضة أو متصارعة، (كانت أصعب معاناته مع الكلمات التي لا تصف شيئاً له رائحة..ذات الطبيعة الأخلاقية والمعنوية.. حتى عندما بلغ سن الرشد، وغالباً ما استخدمها خطأ: الحق، الضمير، الله، الفرح، المسؤولية، التواضع، الحمد،.. إلخ، كلمات استغلقت عليه معانيها/ العطر ص31). وكأنَّ زوسكند يقرر بأنَّ الذي لا يشعر بمعاني الكلمات هذه وشبيهاتها ولا يؤمن بالله فهو شيطان سيفتك ويقتل البشر، وهنا تنويهٌ إلى زمن كتابة الرواية وهي الحرب الباردة، والصفات هذه تتناقض مع الذكاء العالي الذي يتمتع به غرينوي، عدا أنفه المعجزة، وذاكرته الحديدية، ومكره وخداعه، ودقته في ارتكاب الجرائم، والهراوة الخشبية التي يستخدمها في ضرب الضحية لتموت من أول ضربة، دون أية صرخة أو رد فعل، ولو كانت حديدية لما استطاع أحدٌ أن يمنع صرخة الموت وحشرجات الروح، وتغابيه تحت شعار «الأريب العاقل هو الفَطِنُ المتغافل»
وفوق كل هذا يتمتع بثقافة عالية جداً (لقد أتممَ صنيع بروميثيوس لقد تعنَّت وأبدع الشعلة التي توهب لكل الناس ومُنِعَتْ عليه وحده... إنَّه أعظم من بروميثيوس/العطر-ص248). فإذا كان غرينوي ذهب إلى المدرسة ولم يتعلم سوى كتابة اسمه، كيف له أن يكون مطَّلعاً على الكثير من الأساطير، ليبحث في مواضيع لاهوتية، تقول الأساطير اليونانية إنَّ بروميثـيوس كان أحد الجبابرة، قد سرق النار من الآلهة وأعطاها البشر، فعاقبه زيوس، بربطه إلى صخرة مرسلاً إليه عـقابَ الجو يأكل كبده في النهار ويقوم زيوس بتجديدها في الليل. وبعد أنْ شعر غرينوي بانتصاره الكبير في السيطرة على عقول الناس الذين جاءوا يدفعهم الحقد والكراهية لرؤية إعدام القاتل الذي قتل 25 صبية بريئة عذراء، تحول مسرح غراس (كانت العاقبة أن انقلب إعدام أحد أسفل المجرمين في ذلك العصر إلى أعظم حفل خلاعة يشهدها العالم منذ القرن الثاني قبل الميلاد/ ص247).
فإذا علمنا أنَّ الكاتب يتحدث عن الفنكوش، هذا الإكسير الأسطوري للحب الذي يذهب بالعقل لفترة محددة، وقد تناولته الأساطير بكثرة، كفيلم «واحدة بواحدة/ 1984» إخراج نادر جلال، وسيناريو صلاح فؤاد، عادل إمام(صلاح) يتنافس مع ميرفت أمين(مايسة) الفيلم عن الحرب الباردة بين وكالات الدعاية والإعلان، يقع الإعلامي البهلواني صلاح في ورطة عندما يبدأ حملةً دعائية عن منتج وهمي اسمه «الفنكوش»، دون أن تكون هناك سلعة بهذا الاسم على الإطلاق، ليبدأ في تكليف الدكتور «أيوب» بالعمل على اختراع سلعة لتقديمها على أساس أنها «الفنكوش» وفي نهاية الفيلم يؤدي بهم الفنكوش إلى حفلة خلاعة ماجنة، وليلة حمراء بين العدوين صلاح ومايسة.
وهو ذاته ما يحدث في مسرح غراس(العطر/ ص247) وأشار المخرج نادر جلال في مقدمة الفيلم إلى أنه مقتبس من فيلم أمريكي عنوانه (love come back) بطولة روك هيدسون ودوريس داي ومن إخراج المخرج دلبرت مان عام 1961، فالفكرة قديمة جداً ومستهلكة، ولا زال الإنسان كما يحلم بخادم المصباح السحري الذي يحقق الأمنيات، يحلم أيضاً بإكسير سحري يجعله محبوباً من شخصٍ ما أو من الناس أجمعين، وأسطورة عرج السواحل لا زالت فعَّالة ووقع الكثير من الأثرياء السذَّج في فخ شرائه، ولكن قطرة العطر السحري التي استخدمها غرينوي من قارورته(كان يمدُّ يده بين الحين والآخر في جيبه ويقبض على القارورة الزجاجية الصغيرة، وكانت مليئة، فلم يستهلك منها لمسرح غراس سوى قطرة واحدة وسيكفيه الباقي ليسحر الدنيا بأكملها/العطر-ص259) هذه النهاية الفعلية للرواية، أما أن يستخدم كل القارورة ورغم ذلك لم يتأثر بها قاتلوه، بينما قطرة واحدة سحرت أكثر من عشرة آلاف متعطشين لقتله، ووالد لورا ريشي يقبل يديه ويضعه في فراش ابنته التي قتلها بوحشية وانتزَعَ فروة رأسها، وهذه مفارقةٌ أخرى، هذا وعلماً أن غرينوي كان قد قبض عليه وتعرَّضَ لتعذيبٍ شديد، ورغم ذلك لم يبدِ أية مقاومة أو شعوراً بالألم، وكان يجيب القاضي بأنه قتل الـ 25 صبية لأنَّه كان بحاجةٍ إليهن، كيف بقيت القارورة عنده بعد دورة التعذيب الشديد التي تعرض لها غرينوي؟ لماذا لم يستخدم عطره الساحر لحظة القبض عليه؟
لماذا لم يستخدم عطره حين كان في السجن؟
في عام 2005 قرر المخرج توم تويكر أن يقدِّم الرواية سينمائياً، بعد أن منح الروائي زوسكند مبلغ عشرة ملايين يورو، وقدمه للسينما عام 2006، مستخدماً تقنية تيار الوعي، حيث بدأ من النهاية، سجين يصدر ضده حكم بتكسير عظامه كلها ثم شنقه حتى الموت، ويقرأ الحكم وسط الجموع الغفيرة المتحمسة لإعدامه، لكنَّ المشهد يبدأ بصورة أنفٍ كبير، في الظلام كإعلان بداية مغامرة أنف سارد ومسرود، ليس كأنف غوغول، وحذف المخرج مشاهد سبع سنوات في العزلة ومرحلة الماركيز تاياد اسبيناس، عكس الديكور أجواء فرنسا في القرن الثامن عشر، وأضاف أداء داست هوفمان لدور العطَّار بالديني عطراً سحرياً، أمُّه تموت شنقاً، والرواية في المقصلة، المرضعة تقتل ذبحاً، وهذا خلاف الرواية، إذ تموت في دار العجزة، أحداث الفيلم كلها في أيام دون مراعاة الزمن الروائي، يدخل إلى غرفة مساعد المستشار ليأخذ مفتاح غرفة لورا، وفي الرواية يدخل غرفتها من النافذة، يخرج عطره السحري الذي خبأه وهو في السجن، وفي الرواية لا يتطرق إلى العطر إلا وهو على المقصلة، وكأنَّ المخرج قد عالج الثغرة التي يثيرها السؤال: أين كان عطره وهو يعذَّب؟

هامش:
باتريك زوسكند- العطر- ترجمة كاميران حوج-2007- دار الجمل-كولونيا.

 

15

Keine Kommentare:

Kommentar veröffentlichen