Sonntag, 9. Oktober 2011

عن الفتنة والطائفية مرة أخرى


طالما كان آذار، في العرف الكردي، متميزا، ففيه يشعلون نار السنة الجديدة وفيه يشيعون كثيرا من رموزهم. وفي آذار أيضا، هذا على المستوى السوري، جمح الأكراد عام 2004 في مدينة القامشلي،  أقصى شمال شرق، ضد طغيان النظام وانتشرت شرارات ما سمي آنذاك انتفاضة القامشلي في شتى المناطق الكردية. وكعهدها لم توفر السلطات القمعية في ذخيرتها تطلقها على المتظاهرين العزل. وآنذاك أيضا وأيضا تنطع المنظرون للحدث وجيّرت الغضبة الشعبية إلى صراع بين كرد وعرب، بين مدينتين عصبيتين، عصابيتين، تمثل أولاهما، القامشلي، النزعات القومية الانفصالية وثانيتهما، دير الزور، القومية العربية، بل القومجية الصدّامية. وكبح الجماح لأسباب لا وسع للاطراد فيها، لكن بينها استهانة "العقلاء" بدماء الضحايا والنزوع  إلى الاستكانة، بذريعة البقاء  تحت سقف الوطن والحرص على استقراره، وكذلك التعتيم الإعلامي.
وآذار ذاته، بكل رمزيته، تميز هذه المرة بانبعاثه من رماد آخر وفي هيئة أخرى، ليست محض كردية، ملونة بدماء براعم سوريا، في أقصى جنوبها، بينما أرسل النظام ممثليه للاحتفال مع الأكراد بنيروزهم وهم الذين صادروا هذا الحق منذ استيلائهم على السلطة، لجما لهم عن تشاركهم مع العربي في الألم الواحد. ومن جديد بعث النظام الطاغي رسل الفتنة ليعظوا المواطنين بالثوابت الوطنية والاستقرار. إلا أن الجيل السوري الناشئ على تفاعلات جديدة، سريعة، مع الحياة اليومية، مقتبسا شعلة التغيرات الطارئة على الكون من حوله، لم يستكن ولم يصغ إلى أصوات "العقلاء" الناصحين له، مصرا على استلهام الجديد الناشئ في روحه المتمردة على ثبات عالمه الضيق. امتدت شعلة آذار وتكاثر حاملوها على المساحة السورية جمعا.
على صرخات دم مشعل تمو الكردي، ابن القامشلي، أطلق النظام اليوم، 9 تشرين الأول 2011، سراح نواف البشير العربي، ابن دير الزور. بهذا يبرهن من ناحية على هشاشته أمام الهدير الجماهيري وربما، هو العتيد في الألعاب الدنيا، يعيد دس أنفه في الخلية القذرة، خلية ضرب الجزء بالجزء، كي يتمثل دور حافظ الكل، وهو جاهل، أو متعام، أن شابا مغنيا من دير الزور ذاتها، أعاد مياه الصداقة بين أبناء مدينته وأبناء "عدوتها" القامشلي، وأن أبناء الحراك وبابا عمرو ودير الزور خرجوا صارخين، طلبا لإزالة النظام الذي يصر على قتلهم جميعا، ليبقى وحيدا أوحد على عرش من جماجمهم.

كاميران حوج: مترجم سوري
http://www.gemyakurda.net/modules.php?name=News&file=article&sid=43516

Mittwoch, 5. Oktober 2011

مجاز عن حياة تالفة.."الكونتراباص" لباتريك زوسكند




عبدالله السفر : كاتب سعودي 2011-09-29 4:13 AM     

كما تنوس الأرجوحة في حركتها الدائبة إلى الأمام وإلى الخلف، إلى الأعلى ثم الأسفل ارتطاماً بفراغ لا يبعث على البهجة بقدر ما يفتح نافورةً تندلع من ثقوب الألم.. هكذا يفعل باتريك زوسكند مع بطله في "الكونتراباص" الصّادرة عن دار الجمل (بيروت ـ 2011) بترجمة كاميران حوج.
يخلو العمل من الإشارة إلى نوعه التصنيفي فيما إذا كان رواية قصيرة (78 صفحة) أو مسرحية مونودراما من فصل واحد، والأقرب في تقديري هو الثاني لدواعٍ فنيّة نكتشفها أثناء قراءة الكتاب. عازف شاب لآلة الكونتراباص بأوركسترا الدولة الألمانية، في الخامسة والثلاثين، يقيم وحيداً في غرفة لا نسمع فيها غير صوت الموسيقى وصوت تداعياته عن الآلة وعن حياته. الكونتراباص ضمن عديد الآلات في الفرقة الموسيقية منظوراً أمام الجمهور في مشهد مسرحي. العازف أيضاً في مشهد مسرحي مماثل حيث الغرفة؛ المنصّة التي يتوجّه منها إلى جمهور معلوم، (القراء) بدلالة ضمير الخطاب الجمعي المصاحب لأقوال العازف في أغلب صفحات الكتاب. هذه المماثلة تستدعي السؤال عن الخيط الواصل بين العازف وآلته.
يبني العازف في البداية صورة متعالية لآلته الوتريّة، تنزلها منزلة الأصل ومنبع الشرارة التي تتوّلد عنها صناعة الموسيقى. الآلات الأخرى لا شيء دونها. لولاها لما حصل الأثر الكبير، يصدر من فرقة كاملة. هي الأساس والجوهر الذي لا يمكن تجاوزه أو إهماله (الأوركسترا يمكنها أن تستغني عن المايسترو، لكنها لا تستغني عن الكونتراباص).. (الكونتراباص أهم الآلات الموسيقية في الأوركسترا على الإطلاق).. (الكونتراباص هي الآلة الموسيقية المركزية في الأوركسترا). ويؤسس لهذه الفكرة حين يجعلها الأم والأرض؛ في صورة جامعة للولادة والتخليق ومنح الوجود وأسبابه (... الأرض الأم، التي نضرب كلنا جذورنا فيها، منبع القوة، الذي تتغذّى منه كل فكرة موسيقيّة). عالم السُّرّة الذي يصل الموجودات الموسيقية بالحياة، يلحّ العازف على تأكيده. يذهب ثم يعود إليه مراراً، وتنزلق منه كلمة تماهي بينه وبين آلته (هذا أنا، أعني الباص. الكونتراباص).
تلك الفكرة ـ مركزيّة الآلة ـ لا يصمد عليها. ينتابه الشكّ حيالها، سرعان ما يصمها بأنها "آلة مرعبة" وأنها "تنكة زبالة" ويتناول هيئتها بمزيدٍ من السخرية والتبخيس بما ينسف أصالة الكونتراباص، في الشكل أو المكان الذي يشغله على مسارح العروض الموسيقية، (منظره منظر امرأة عجوز سمينة. الوركان متهدلان، الخصر منتهٍ تماماً، عال كثيراً وغير ضيّق كفاية).. (الكونتراباص هي أكثر الآلات الموسيقية دناءة وفظاظة وغلاظة التي تمّ اكتشافها في التاريخ). ويمضي في هجومه لبيان الهامشيّة التي عليها آلته عندما تتأخر في المشهد أمام الجمهور، حيث لا يراها أحد (وفي آخر الأخير الكونتراباص. ليس وراءه إلا الطبل. لكن هذا نظريّا فقط، لأن عازف الطبل في حدّ ذاته وحيد ويأخذ مكاناً عالياً، بحيث يراه الجميع). الهامش الذي يقبع فيه العازف بعيداً عن الأنظار بآلة لا تنزع إلى الحضور الفردي؛ فتلفت البصر وتستدرّ الإعجاب، يصيّره كتلةً من الغضب، والنقمة تتنفّس برغبات التدمير التي تريد أن تمحو الكونتراباص محواً (أقصى ما أريده أحياناً هو أن أرميه في الزبالة. أن أقصّه بالمنشار، أهرسه هرساً، أقصقصه وأطحنه وأجعله غباراً ورماداً في المدفأة).
إذا، هي نقمة وإرادة انتقام من آلةٍ جعلت عازفها قريناً للصوت الخافت المحجوب. الحضور الناقص. المكانة المختلسة. "الإنسان" المطعون في وجوده، فلا يُؤبه لشأنه، ولا يشير إليه أحد.الكونتراباص فعلَ كل هذا، طمره في الظل فملأت الخيبة صدره. العازف يتنكّر لآلته، ويريد أن يخرج من عالم المغفوليّة والمجهوليّة، ومن هرميّة المجتمع الموسيقي الذي أبعده إلى الهامش وفي الأسفل. هل يكون مخرجه عبر "سارة"؛ المغنية الصغيرة في الفرقة التي يظن أنها لا تعرفه ولم يلفتها رغم الوجود المشترك والصحبة في الحفلات. يوقن أنه لن يصل إليها عبر مهنته عازفاً. عليه أن يقوم بفعلة متهورة تجلب انتباهها الذي لم توفّره له موسيقاه.. عليه أن يخرّب "حفلة اليوم" ويقطع سيرورة العرض ويصرخ باسمها (وبجميع الأحوال سيحدث شيء ما. ستنقلب حياتي 180 درجة. ستكون نقطة حاسمة في سيرة حياتي، وحتى لو لم أحصل بهذه الصرخة على سارة، فلن تنساني طوال عمرها (...) وهذا وحده يستحق الصراخ باسمها). هل حدثت "الصرخة"؟ .. تُترَك معلّقة على مواتاة الجرأة، ربما تمنحه العتق من ربقة التراتبيّة وينجو من التلف والنسيان وحيداً في غرفته يجترّ الاضطراب والغياب في خدر الكحول.
http://www.alwatan.com.sa/Culture/News_Detail.aspx?ArticleID=70872&CategoryID=7

Donnerstag, 25. August 2011

باتريك زوسكند في «الكونتراباص» هل يختار البشر الآلات التي تشبههم؟

شوقي بزيع

لم يكن للكاتب الألماني باتريك زوسكند أن يأخذ طريقه إلى الشهرة وذيوع الصيت من غير روايته «العطر» التي عدها الكثير من النقاد والمتابعين إحدى أجمل الروايات العالمية المعاصرة، سواء من حيث موضوعها الفريد أو حبكتها المحكمة أو ربطها الحاذق بين الإبداع والانحراف، وبين الشهوة والموت. وقيمة الرواية تلك لا تكمن في إعادة الاعتبار إلى حاسة الشم التي عانت طويلا من «التمييز» والدونية ونُظر إليها كحاسة هامشية أو نافلة بالقياس إلى السمع والبصر والذوق واللمس. وإذا كان البعض قد ذهب إلى القول بأن الروائي، مهما كان عظيماً، لا يكتب سوى رواية واحدة ثم يكتفي بتكرارها أو محاكاتها في أعمال أخرى فإن «العطر» شكلت التحدي الأكثر خطورة لصاحبها بالذات ووضعت له سقفاً عالياً يصعب محاذاته أو القفز فوقه.
أقول هذا الكلام وأنا أفرغ من قراءة رواية زوسكند «الكونتراباص»، التي نقلها إلى العربية كاميران حوج والتي هي أقرب إلى مونولوج سردي قصير منها إلى الصيغة المتداولة للرواية المعروفة. ومع ذلك فإن بصمات الكاتب الالماني المميزة لا تختفي أبداً عن أنظار القارئ المتعطش إلى مطاردة الكاتب الذي احتفى بحاسة الشم كما لم يحتف أحد من قبل والذي أهدى الإنسانية المعاصرة تحفة روائية عصية على النسيان. والملاحظ في العمل الجديد كما في أعمال سابقة، من بينها رواية «الحمامة» على سبيل المثال، أن زوسكند يحاول أن يكون كاتب المهمشين والمطعونين في وجودهم في هذا العصر البالغ القساوة وغير الرؤوف بالضعفاء. ثمة أتر كافكاوي في كتابة زوسكند الذي يلتقي مع سلفه الألماني في النفاذ إلى أحشاء النفس البشرية وظلامها المعتم وفي كشف النقاب عن قدرة الآلة الرأسمالية الوحشية على سحق الإنسان ووأد طموحاته الشخصية بالكامل. وإذا كان شعور بطل كافكا بالمهانة يحوله إلى حشرة حقيقية على المستويين الاجتماعي والنفسي فإن بطل زوسكند في «الحمامة» لا يختلف كثيراً عن سابقه بحيث يتحول العثور على مرحاض إلى أحد أكثر الطموحات جدارة بالمتعة والرضى عن النفس.
في «الكونتراباص» يدفعنا زوسكند مرة جديدة إلى الاعتقاد بأن البطولة عنده هي للمعنى كما للموضوع المفاجئ والمنبثق عن قوة تحديق الكاتب في ملامح عصره وسماته الغالبة. ليس ثمة في الرواية هذه سوى بطل واحد في الخامسة والثلاثين من عمره ويشتغل ضمن الأوركسترا السيمفونية للدولة الألمانية كعازف على آلة الكونتراباص. على ان أحداً غير زوسكند لا يملك في اعتقادي القدرة على استنباط عمل روائي كامل من تلك العلاقة الملتبسة والمعقدة بين العازف الشاب وآلته الموسيقية التي لا يكاد أحد يصفق لها أو يعيرها انتباهاً رغم كونها الأضخم بين الآلات. ورغم ان الأوركسترا السيمفونية تتحول في الكثير من وجوهها إلى مجسم مصغر لهرمية الدولة الصارمة والمجتمع البالغ الانضباط، فإن الكونتراباص بشكله الأنثوي الفاقع يتراجع موقعه إلى الصفوف الخلفية لتتقدمه دائما الكمنجات وسائر الآلات الوترية وآلات النفخ والقرع بالأيدي. ورغم ضخامته البادية فهو لا يعتبر قطعة مميزة من أثاث المنزل، كما هو حال البيانو، ولا يلقى من الجمهور المحتشد سوى التبرم وإشاحة السمع، مهما بلغت مهارة عازفه.
سيكتشف القارئ من سياق النص ان والد العازف كان متسلطاً وقاسي القلب وأن والدته التي كان شديد التعلق بها لم تكن تعيره الانتباه الكافي بما جعل اختيار الابن العزف على الكونتراباص دون سواه من الآلات نوعاً من الانتقام من الأم الضعيفة والهشة ومن الأب المستبد الذي لا يكف عن اغتصاب الأم وإذلالها يوميا. ولكنه انتقام من النفس وتعذيبها اليومي في الوقت ذاته عبر آلة بالغة الغباء يتفنن زوسكند في استعراض تاريخها الهامشي وإعراض الموسيقيين الكبار كبتهوفن وموزار وباخ وفاغنر عن العزف عليها مطلقاً.
تنبغي الإشارة هنا الى أن زوسكند يختار لروايته أسلوب المونولوج الداخلي الذي يوفر له ذريعة السرد من خلال بطله العازف الذي يروي، شبه مخمور، علاقته المأساوية بالآلة الوحيدة التي تشبهه في غرابتها وهامشيتها الدونية. وإذ يضع المؤلف لعمله عناوين فرعية متتالية تتعلق بحالة بطله النفسية والجسدية وبهمسه وصراخه واحتسائه الكحول، يبدو العمل أقرب إلى مسرحية بفصل واحد يمكن مخرجاً حاذقاً أن يمنحها كل أسباب النجاح على خشبة المسرح. أما قصة الحب المتخيلة التي راح ينسجها البطل مع مغنية الأوبرا سارة فلم تكن سوى الرد الرمزي على تجاهل الأم وإهمالها له، أو محاولة مضنية لاستعادة صورة الأم في فتاة تماثلها في الضعف والبراءة الرومنسية. والمؤلم في الأمر أن استبسال البطل في العزف على آلته لدى انضمام مغنية الأوبرا الشابة إلى حفل الأوركسترا السيمفونية لم يتح لسارة أن تراه بأم العين وهو المنزوي كعادته في الصف الأخير من العازفين. ولما كان لا بد للعازف المهمش أن يجد لحياته معنى ما أو حدثاً دراماتيكياً يخرجها من الرتابة فهو يجد نفسه أمام خيار انتحاري يقضي بالخروج من مكانه في ذروة الاحتفال وإعلان حبه لسارة بصوت جهوري حتى لو أدى الأمر إلى طرده من وظيفته.
هكذا يبدو باتريك زوسكند مهموماً بالحواس أكثر من أي شيء آخر، بحيث تبدو حاسة السمع في «الكونتراباص» هي الرديف الطبيعي لحاسة الشم في «العطر» مع فارق ملحوظ في المعالجة وقوة السرد. وإذا كان الكاتب الألماني معنياً دائماً بإثارة الأسئلة الشائكة والملغزة فإن سؤالا إضافياً في الرواية الأخيرة لا بد أن يطرح نفسه على القارئ ومفاده أن الإنسان إذ يختار مهنته أو آلة عمله فهل يفعل ذلك لأنها «تشبهه» في الأصل أم أن الشبه يحصل في ما بعد بسبب المجاورة والتعايش. وهل شعور بطل زوسكند بالتهميش دفعه إلى اختيار آلة هامشية للعزف أم أن الشعور تأتى لاحقاً بفعل الآلة نفسها؟ واستطراداً أقول، في ما يتعدى دائرة العزف ويلامس علاقة الفرد مع المركبات الآلية التي يختار قيادتها: هل تصبح لسائق الجرافة أو القاطرة أو الشاحنة الطباع الفظة لهذه الآليات من خلال المعايشة أم أنه يختار قيادتها لفظاظة تكوينية في طباعه؟ مع التقدير الكامل بالطبع لجميع المهن، ومع الابتعاد عن التعميم القاطع والشمولي. ولم لم تكن ثمة علاقة جدلية بين الاثنين فلماذا تختار النساء أقل أنواع السيارات ضخامة وفظاظة وأكثرها نمنمة ورهافة وصلة بالأنوثة؟!

Mittwoch, 24. August 2011

"جهات الغرب" رواية عن التقلبات السياسية والتاريخية

صدر عن مشروع "كلمة" التابع لهيئة أبو ظبى للثقافة والتراث، الترجمة العربية لرواية "جهات الغرب" للمؤلف ميشائيل كولماير، ونقلها إلى اللغة العربية كاميران حوج.وتضم الرواية 16 فصلاً ضمن 4 أقسام، يحمل القسم الأول عنوان لانس، والثانى أوروبا، والثالث أمريكا السوداء كالحبر، أما الرابع فيأتى بعنوان إلهى لماذا تركتنى.تتحدث الرواية عن وجوه الحياة وسطوة الزمن وقوة الحكايات، فهى ملحمة مدهشة تتداخل فيها خلجات قلب الإنسان، فتبدأ الرواية بسيرة ذاتية تقتفى أب وأم وجد وابن، فبنى كولماير روايته ظاهريا على شكل أدبى تقليدى عنوانه: رواية الأجيال، التى تربط الحفيد بجده، وتربط بين الطرفين بأب.أعطى الكاتب لروايته المعاصرة بعدًا جديدًا، وأضاف إلى الرواية العالمية مساهمة نوعية، تبرهن على أن الكتابة المبدعة نصيب المحظوظين من البشر.ويصوّر المؤلف فى رؤيته بسردية عالية مدى اعتماد البشر على بعضهم وتشابك أحداث العالم بعيدًا عن التقلبات السياسية والتاريخية، لماذا يتصارعون ثم لا يجدون خلاصًا إلا فى السلم؟، إنها بانوراما مؤثرة تضع أمام أنظارنا أعظم الخطايا التاريخية وردود الفعل الذاتية عليها.وفى تقديمه للترجمة العربية للرواية يقول د.فيصل دراج: "هذه رواية عن وجوه الحياة، وسطوة الزمن، وقوة الحكايات.. وقد أعطى ميشائيل كولماير فى روايته هذه الرواية الألمانية المعاصرة بعدا جديدا، وأضاف إلى الرواية العالمية مساهمة نوعية. كيف تكتب سيرة القرن العشرين فى رواية، وكيف يأخذ القرن سيرة إنسان متعدد الصفات، وكيف يبدو الشر روحا خالدة، وهل الحكايات تخفف الأحزان؟.. أسئلة واسعة الأصداء طرحها روائى فى عمل إبداعى كبير، يجعل القراءة نعمة، ويبرهن على أن الكتابة المبدعة نصيب المحظوظين من البشر".ولد المؤلف ميشائيل كولمايرفى عام 1949 فى بلدة هارد فى النمسا على ضفاف بحيرة بودنزه، درس الآداب الألمانية والعلوم السياسية فى جامعة ماربورغ فى ألمانيا والفلسفة والرياضيات فى جامعة غيسن، نال العديد من الجوائز بينها جائزة راوريزر للأدب، جائزة يوهانس باول هيبل، جائزة مانه شبيربر وجائزة أنتون فيلدغانز، يعيش المؤلف متفرغا للكتابة فى هوهنمز وفيينا، نشرت له دار دويتيكه: غرفتك لى 1997، كالينغ 1998، النظرة الحزينة إلى الأفق 1999، يوم اشتهر إميليو زانيتى 2002، رواية من الجمعة إلى الاثنين 2004، هاتف الواحدة ليلا 2004، والتعكير على موزارت 2006.ولد مترجم الرواية كاميران حوج فى تل عربيد سوريا عام 1968، يقيم منذ 1996 فى ألمانيا، درس الآداب الألمانية والاستشراق فى جامعة بوخوم بألمانيا، من ترجماته: غونتر غراس: فى خطو السرطان 2006، دانيال كيلمان: مسح العالم 2009، وكريستا فولف: جسد 2009.

Samstag, 16. Juli 2011

خفا الكردي السوري


منذ أن قطّعت الاتفاقات والمعاهدات الجسد الكردي في أوائل القرن المنصرم لم تسنح لذراعه السورية كثير فرص يسخّرها في تمزيق الجلد الذي خيط له، يصل نياطه، يرتّق رقاعه ليُنجِد هويته الخفاقة في رياح المتاهة التي فرضت عليه وغفا فيها خمسين عاما ونيف.

الكردي قام بعمله في الثوران السوري قبل انطلاقته الآن. لقد نحَتَ أسّه قبل سنين مضت، يبدو أن نسيانا طواها في هذا الحاضر المغتلم الذي كثر فيه المحامون عن أحلام وأهواء تنحو لتنسم فضاء فيه بعض نقاء.

ولطالما كان الكردي السوري اسفنجة أمثولة تمتص ما يسيل من الجراح التي تشرع عليه من الجهات الشتى عامدا ألا ينكأ جرحه، ينحيه في ركن قصي من وعيه المنكوب بأثرة قوامها أنه الأخ الأصغر في أسر وإقطاعات تعدد أولياؤها.
وكلهم استحوذ الوصاية عليه شرعا أو نهبا. وكلهم، رغم اختلافهم، أوصاه بالسير على السراط عينه. إن حاد عنه يمينا، قيل إنه خائن، وإن مال عنه يسارا، قيل إنه موتور متهور. فظل يرتد بين حذر وحذر، بين منع ومنع، وبين قمع وقمع، ينوس ليقرع ساعات الآخر ويكون مصيره أن يتأخر أبدا.

لعل الكردي لم يهمل. لعله يمهل فورة ذاته لحين تسكن فيه الفورات وتباشر الطلائع الجديدة تقاسم الحظوظ حيث تصيب كل طليعة ما قد تصيب وتقيم أنصابا وروادع غرانيتية، مهيبة، مفتداة، تغشى عين الكردي فيلحقها بعضله ودمه متمنيا عليها أخوّة ينهلها/يبتهلها من أباريق مساجده الناطقة بلسان لا تتقنه أمه.
عسى يجيء الكردي السوري، هذه اللحظة (التاريخية) النابضة بالتحولات واستشفاف يوم حامل، بصيرا بغاية تتيحها له اللحظة ويمد أصابعه الخجولة مشيرا إلى ما يرجوه من أولياء أمره اليوم. عساه لا يعود هذه المرة أيضا بخفي كردي.

Samstag, 2. Juli 2011

آلاكوم يدرس حالة المرأة في الفلكلور الكردي


الكاتب يقارن بين شتى صنوف النساء في المجتمع الكردي وبين مختلف الصياغات التي حيكت بها حولها الملاحم وقيلت عنها الأهازيج والأمثال.
 
ميدل ايست أونلاين

كتب ـ كاميران حوج

الترجمة خلخلت بنيانها
يعتبر الفلكلور الكردي مصدرا ثمينا لكل بحث يتوخى دراسة الكرد وتاريخهم بموضوعية وتجرد ومن هذا المنطلق يتطرق الكاتب روهات آلاكوم، الذي يشتغل منذ عهد بعيد على الفلكلور والتاريخ الكردي، إلى دور المرأة في المجتمع الكردي في كتابه "المرأة في الفلكلور الكردي" من خلال عدة أبواب، حيث يتناول تيمة المرأة في عدد من الأجناس الأدبية وهي الحكايات والملاحم والأغاني والأمثال الشعبية التي يتناقلها الأكراد حتى اليوم الراهن، دون أن يعرف لها مؤلف معين، كما يقول الكاتب في مقدمته، ويضيف أن موضوعي الفلكلور والمرأة تداخلا "وأغنى كل منهما الآخر. سيرى القارئ أن النساء كون لأنفسهن مكانة مميزة، بل وامتلكن أحيانا ناصية القول.
ويتبين هذا من خلال الكثير من الحكايات التي تروى عن النساء القويات المطالبات بحقوقهن والمناضلات لأجلها حتى تتحقق. فالكاتب يقارن بين شتى صنوف النساء في المجتمع، وبين مختلف الصياغات التي حيكت بها حولها الملاحم وقيلت عنها الأهازيج والأمثال، التي تقر المترجمة بمدى صعوبتها لأنها "في أصلها مقفاة وموزونة، لكن الترجمة خلخلت بنيانها"، وهي لهذا تورد في الحواشي توضيحات مبسطة للأمثال حتى تقربها من القارئ العربي بصورة أفضل.
إن قارئ الكتاب الصادر عن مشروع "كلمة" للترجمة، التابع لهيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، بترجمة خلات أحمد، سيطلع من خلاله على ذخر هائل من الحكايات والأساطير التي حاكها الأكراد طوال تاريخهم عن المرأة وسوف يتبين له دورها وألقها واستقلالها في مجتمع لم يعرف التزمت نحوها. فنرى الأبطال يسلكون في سبيلها دروب "بلاد التيه"، ونرى المرأة الذكية، الوفية، المكافحة لقوت عيالها والحرص على بيتها، كما نرى المرأة الكسول والمنبوذة والشريرة التي يمقتها المجتمع ويعبر عن مقته من خلال الحكايات.
المؤلف روهات آلاكوم يعيش اليوم في السويد وأصدر أعمالا عديدة عن التاريخ الكردي، منها "صورة الأكراد في الأدب التركي الحديث" 1989، "صورة الأكراد في أعمال يشار كمال" 1992، "الأرستقراطية الكردية" 2004.
أما المترجمة خلات أحمد فهي شاعرة سورية تعيش اليوم في سويسرا، لها ديوان "أوشحة الفجر" 2004، و"مذكرات زهرة الاوكاليبتوس" 2005، و"مختارات من الشعر الكردي في سوريا" 2009.

http://www.middle-east-online.com/?id=113448

Mittwoch, 22. Juni 2011

دستويفسكي وقتل الأب





دستويفسكي وقتل الأب
زيغموند فرويد                         

 لنا التمييز في شخصية دستويفسكي بين أربعة ظواهر: الأديب، العصابي، الأخلاقي والآثم. وكيف يجد المرء سبيلا للخوض في هذا التعقيد.
      إن أقل ما يدعو للشك في هذه العقدة المبينة أعلاه، هو الأديب، فقد حجز دستويفسكي لنفسه مكانا غير بعيد عن شكسبير. فالأخوة كارامازوف هي الرواية الأعظم على مدى الدهر، ومرحلة المفتش الكبير أحد أعظم نتاجات الأدب العالمي. لكن على التحليل البدء قبل معضلة الأديب.
      الأقرب إلى نيران التحليل في شخصية دستويفسكي هي ظاهرة الأخلاقي. لن نتغاضى عن الشك إذا رفعنا دستويفسكي إلى منزلة الأخلاقي، بعلة أن من وصل أعلى مراتب الأخلاقية هو فقط من تمخض في أعمق الذنوب. إن الأخلاقي هو من يستجيب للمعاناة الداخلية دون أن يستسلم لها. أما من يأثم ثم يدعي في ندمه متطلبات أخلاقية، يؤخذ عليه أنه يكتفي بإراحة نفسه، أنه لم يقم بالجوهري في الأخلاق، أي التضحية، فنمط الحياة الأخلاقية مسألة إنسانية عملية. إنه يذكرنا بالبرابرة أثناء هجرات الشعوب، يقتلون ثم يقدمون القربان، حيث تغدو الكفارة تقنية مباشرة لتبرير القتل. ولم يكن سلوك إيفان الرهيب خلاف ذلك. نعم، إن هذا التوازن مع الأخلاق سمة الخُلق الروسي، فبعد الصراعات العنيفة، محاولةَ مصالحة متطلبات الفرد الغريزية مع متطلبات الجماعة الإنسانية، تراجع دستويفسكي نحو الخضوع للسلطتين الدينية والدنيوية، نحو الخشوع أمام القيصر والإله المسيحي، ونحو ضيق الأفق القومي الروسي. حالة تتوصل إليها النفوس الدنيا بقليل من الجهد، وهنا نقطة ضعف الشخصية الكبيرة. لقد فوت دستويفسكي فرصة أن يكون معلما ومحررا للبشرية ونادم سجانيها، وعلى هذا لن يشكره مستقبل الثقافة الإنسانية إلا قليلا. أغلب الظن أنه لعن بالفشل بسبب عصابيته. فنظرا إلى سمو ذكائه، ونظرا إلى شدة حبه للإنسانية، كان دستويفسكي يستطيع شق سبيل آخر لحياته، سبيل الحواريين.
      إن اعتبار دستويفسكي مذنبا أو جانيا، يصطدم بمانعة شديدة، ليس فقط في التقييم المحافظ للجريمة، وللحال يتضح الباعث الحقيقي على هذا. السمتان الجوهريتان للمجرم هما البحث اللامحدود عن الذات وميول التخريب المتفشية، وجودهما معا وشرط بدوِّهما هو اللاحب وتدني تقدير القيمة الوجدانية للموضوعة (الإنسانية). هنا، عند دستويفسكي، يتذكر المرء العكس تماما، بتذكر حاجته الشديدة إلى الحب وقدرته العظيمة على الحب، والتي تظهر بمظهر الطيبة المبالغ فيها وتدعه يحب ويساعد، حيث يكون له الحق في الحقد والانتقام، مثلا في علاقته بزوجته الأولى وخليلها. وهنا يحق التساؤل، كيف يمكن على الإطلاق تصنيف دستويفسكي في خانة الجناة. والجواب: إنه نسيج الأديب ما يميز الشخصية العنيفة، القاتلة والأنانية، وهناك بعض الوقائع من حياته تبرهن على هذه الميول المدمرة في داخله، كإدمانه القمار واحتمال الاعتداء الجنسي على فتاة قاصر (اعترافاتي) [1]. والتناقض فيما خلصنا إليه يأتي من حقيقة أن غريزة التدمير في دستويفسكي، والتي كانت لابد أن تدفعه على الجناية، وجِّهت أساسا ضد الذات (نحو الداخل عوض الخارج)، وتبدو على السطح في شكل مازوخية وشعور بالذنب. وشخصيته تتضمن رغم ذلك كفاية من السمات السادية، تظهر في انفعاليته الشديدة، في إدمانه الألم، في اللاتسامح، حتى مع الذين يحبهم وتتبين كذلك في طريقة معاملة لقرائه. فهو إذاً سادي نحو الخارج في الأمور الصغيرة، نحو الداخل في الأمور الكبيرة، إذا مازوخي، أي الإنسان الأضعف، الأطيب والأكثر استعدادا للمساعدة.
      لقد استخرجنا من عقدة شخصية دستويفسكي ثلاثة عوامل، أحدهما كمي والآخران كيفيان: وجدانيته فوق الطبيعية، الفطرة الشاذة، التي كانت لا بد وأن تدفعه ليصبح سادومازوخيا أو جانيا والموهبة الفنية غير القابلة للتحليل. كان لهذه التركيبة أن تتواجد دون العصاب، فهناك مازوخيون، كاملي المازوخية دون أن يكونوا عصابيين؛ لأمكن - حسب تناسب القوى بين المتطلبات الغريزية وروادعها، بالإضافة إلى سبل التفريغ المتاحة (تفريغها في الفن)- تصنيف دستويفسكي ضمن ما يطلق عليها اسم "الشخصية الغرائزية"، لكن الموقف هنا يتعكر بحضور العصاب الذي، كما قيل،ليس من الضرورة أن يظهر في هذه الشروط، لكنه يتفاقم بتفاقم التعقيدات التي على الأنا التغلب عليها، فليس العصاب إلا إشارة إلى عدم تمكن الأنا من هكذا توليف، إلى أنها ضحت بتوحدها وهي تحاول هذا.
  ما هي علامات العصاب بمعناه الضيق؟ عرّف دستويفسكي نفسه، كما اعتبره الآخرون، بالمصروع بناء على التشنجات العضلية الشديدة، المترافقة بفقدان الوعي والاضطرابات اللاحقة بالنوبات المرضية، وكما يبدو فإن ما يطلق عليه اسم "الصرع" كان مجرد عَرَض للعصاب الذي يصنف في خانة Hysteroepilepsie ، الهستيريا الحادة.لا يمكننا التيقن التام من الأمر لعلتين، أولا لأن المعلومات المتوافرة عن التاريخ المرضي لمرض دستويفسكي المسمى صرعا، ضعيفة ولا يمكن الثقة فيها، ولعدم وضوح الظروف المرضية المرتبطة بالنوبات شبه الصرعية، ثانيا.
    لنرجع إلى النقطة الثانية. من العبث هنا إعادة التشريح المرضي للصرع، والذي لن يقدم لدراستنا شيئا إضافيا، رغم ذلك يمكن القول: كوحدة عيادية يظهر دائما Marbus Sacer القديم، ذلك المرض المرعب بنوبات التشنج التي لا يمكن توقعها ولا استفزازها، بانقلاب السلوك نحو الانفعال والعدوانية وبانحطاط الطاقات الروحية المستمر، وفي النهاية تتشتت الصورة في اللاتعيين. تلك النوبات التي تطرأ بعنف، بوحشية تترافق مع عض اللسان وإدرار البول والتي قد تتطور إلى Status Epilepticus  الخطر الذي يقود غالبا إلى الاعتداء الشديد على الذات، كما يمكن لها أن تعتدل في برهات قصيرة من الغياب الروحي، في مجرد دوخة عابرة، يمكن لها أن تتعوض في لحظات قصيرة يفعل فيها المريض أشياء غريبة عليه، كأنما تحت سيطرة اللاوعي. عدا ذلك، وبطريقة غير مفهومة، وفي شروط عضوية بحتة، يمكن لها أن تنشأ أول مرة بتأثير نفسي صرف (كالخوف مثلا)، أو استجابة لانفعالات نفسية. [مهما كان الانحدار الفكري السبب الخَلقي لمعظم الحالات، هناك على الأقل حالة واحدة معروفة لم تكن القدرات الفكرية فيها سببا للاضطراب (حالة هلموت هولتزر)، والحالات الأخرى التي يذكر فيها نفس الشيء، لا يمكن التثبت منها أو يطبق عليها نفس الشك المطبق على حالة دستويفسكي]. يولد المصابون بالصرع إحساسا بالبلادة والإعاقة، كما أن المعاناة تترافق غالبا بالبلاهة والأعطاب الدماغية الشديدة، رغم أن هذه الأمور ليست من الضرورات لصورة المرض. ويمكن لتلك النوبات أن تطرأ بكل تقلباتها على أشخاص يبدون تطورا نفسيا كاملا، وغالبا هيجانا لا يقدرون على التحكم فيه، فلا غرابة إذا ألا يستطيع المراقب ملاحظة الهيجان العيادي المعتاد (الصرع). يبدو إن ما يظهر في تشابه الأعراض التي تطرأ على المريض، يتطلب إدراكا وظيفيا لكأن إحدى أواليات الشذوذ الغرائزي متكونة عضويا ويتم توظيفها في كل العلاقات المتخالفة، سواء في اضطرابات نشاط الدماغ، لأسباب نسيجية أو سُمّية، أو عند العجز عن التحكم في الاقتصاد النفسي- هي الحركة المتأزمة للطاقة العاملة في النفس. خلف هذا التقسيم يستشعر المرء هوية أوالية الغرائزية الكامنة في العمق، وهذا لا يبتعد كثيرا عن السلوك الجنسي ذي الأساس السمي، فلقد وصف الأطباء الأولون الجماع بأنه صرع هين، وتعرفوا هكذا في الفعل الجنسي تهوينا وتوليفا للانفعال الغرائزي الصرعي.
  إن "رد الفعل الصرعي"، كما يمكن أن نسمي كل هذا، يدخل أيضا في نشوء العصاب، الذي جوهره التالي: تفريغ كتل الانفعالات التي لا يستطيع المرء التغلب عليها نفسيا بطرق جسمانية. هكذا تغدو نوبة الصرع عَرَضا للهستيريا تكيفه وتولّفه كما في الفعل الجنسي الطبيعي، فلدينا إذا الحق في التمييز بين صرع عضوي و"انفعالي". والمعنى العملي لكل هذا: المصاب بأحدهما مريض دماغيا والمصاب بالآخر عصابي. في الحالة الأولى تخضع النفس لاضطراب خارجي غريب عليها، أما في الحالة الثانية، فالاضطراب يعبر عن النفس ذاتها.
      أغلب الظن أن صرع دستويفسكي من النوع الثاني، لكن لا يمكن البرهان القاطع على هذا، فعلى المرء أن يكون في وضع يسمح له بترتيب أول حالة مرضية والتموجات التالية في إطار تطور نفسيته، وليس لدينا إلا القليل من المعلومات عن كل هذا. إن وصف النوبات بذاتها لا يقدم شيئا يذكر، والمعلومات عن الارتباطات بين النوبات وأحداث حياته ضعيفة جدا، ومتناقضة غالبا. أغلب الظن أن النوبات تعود إلى طفولته المبكرة وأنها طرأت بداية في عوارض خفيفة ومن ثم، بعد الحادث الذي رج حياته في سن الثامنة عشرة، أخذت شكل الصرع[2]. سيلائمنا جدا إذا حق وأن نوبات الصرع ركدت خلال قضائه فترة عقوبته في السجن، لكن هناك معطيات أخرى تناقض هذا الادعاء[3] . لا حظ أكثر من كاتب سيرة الصلة بين قتل الأب في الإخوة كارامازوف وقدر والد دستويفسكي، ودعتهم هذه الصلة البينة إلى اتباع "طريقة سيكولوجية حديثة". إن المراقبة النفسية التحليلية، هذا ما نعنيه بالطريقة السيكولوجية الحديثة، تحاول أن تجد في هذا الحدث الصدمة  الأكبر، وفي رد فعل دستويفسكي عليها قطب الرحى في إصابته بالعصاب.
إن حاولت تعليل هذا الرأي بالتحليل النفسي، أخشى ألا يفهمني غير المطلعين على مصطلحات وتعاليم علم النفس التحليلي.
     لدينا نقطة ارتكاز، ألا وهي إننا نعلم مغزى نوبات دستويفسكي الأولى في سنيه المبكرة، قبل أن يصاب ب"الصرع". فلقد كان لها معنى الموت، لقد مهد لها الخوف من الموت وتمت في حالات النوم الخامل. فقد أتاه المرض بدءا بشكل كآبة مفاجئة لا تبرير لها، حيث كان بعد غلاما. سيروي بعد ذلك لصديقه سولوفيوف "إحساس بالموت القريب"، وكان هذا الإحساس يتبع فعلا بحال تشبه الموت الحقيقي. لقد أخبرنا أخوه آندريه أن فيودور كان يعمد قبل النوم في سنواته المبكرة، إلى كتابة قصاصات يقول فيها أنه يخشى أن يسقط في حال النوم الشبيه بالموت، ويرجو ألا يدفن إلا بعد خمسة أيام من هذه الحال. (دستويفسكي على مائدة الروليت. المقدمة. ص 60). إننا نعلم معنى ومغزى نوبات الموت هذه، إنها تعني التماهي في ميت، في شخص مات فعلا أو مازال يحيا ونتمنى له الموت. والحالة الثانية هي الأهم بالنسبة لنا، فالنوبة تأخذ هنا قيمة العقوبة، لقد تمنى المرء موت آخر وها هو هذا الآخر، ها هو ميت، وعلم النفس التحليلي يدعي أن الآخر بالنسبة للغلام هو الأب عموما، فالنوبة المسماة بالهستيرية- ليست إذا إلا عقابا على الرغبة في موت الأب المكروه.
     إن قتل الأب هي الجناية البدء والأساس للبشرية عموما، كما للفرد (راجع الطوطم والتابو للمؤلف)، إنه على كل حال المنبع الرئيس للشعور بالذنب، هذا إن لم يكن الأوحد. لم تتأكد الأبحاث بعد من مصدر الجريمة والحاجة إلى العقاب، لكنه على كل حال، ليس وحيدا. فالحالة النفسية معقدة وتحتاج إلى مزيد من التوضيح، فعلاقة الابن بالأب، كما نقول، علاقة مرتدة متضادة ambivalent ، فعلاوة على الحقد الذي يكنه للأب، يتوافر كم من الرقة والحنان تجاهه، والموقفان يساهمان معا في الإسقاط على الأب. يتمنى المرء أن يكون مكان هذا الأب لأنه معجب به، يرغب أن يكون مثل الأب، لأنه يريد إزاحته. وهذه الصيرورة تصطدم بممانعة قوية، في لحظة معينة يدرك الغلام أن محاولة إقصاء الأب كغريم ستعاقب بالخصاء، وخشية من الخصاء، أي حرصا على ذكورته، يتخلى عن الرغبة في إقصاء الأب وامتلاك الأم. وبمقدار كمون هذه الرغبة في اللاوعي، تشكل أساسا للشعور بالذنب. نعتقد أننا شرحنا هنا المسار الطبيعي لما يسمى بعقدة أوديب، ولنا طبعا إضافات تالية.
    تنتج عقدة أخرى إذا كان ذلك العامل البنيوي، الذي نسميه الخناث، أقوى تموينا. هنا وبتأثير الخطر الذي يشكله الخصاء على الذكورة، ستحتد الميول للانحراف نحو الأنوثة، واحتلال موقع الأم وأخذ دورها كموضوع محبوب لدى الأب، والخوف من الخصاء وحده يجعل هذا الحل بدوره غير ممكن. سيدرك المرء أنه يُخصى إذا أحبه الأب كأنثى، وهكذا تُكبت الخلجتان، كره الأب والتحبب إليه. الفرق السيكولوجي الطفيف يكمن في أنه يتم التخلص من كره الأب نتيجة الخوف من خطر خارجي هو الخصاء، بينما يتم التعامل مع التحبب إلى الأب كخطر غرائزي داخلي، يعود في أصله على ذات الخطر الخارجي.
       إن ما لا يتقبل كره الأب هو الخوف من الأب. الخصاء مرعب، سواء كان عاقبة أم ثمنا للحب. إن العامل الأول، بين العاملين الذين يكبتان كره الأب، أي الخوف من العقاب والخصاء، هو ما يمكن تسميته بالطبيعي، أما الدعم المَرَضي فيقوى بالعامل الآخر، الخوف من الوقع الأنثوي. وهكذا يغدو الكمون الخنثوي شرطا أو تأكيدا للعصاب. يمكن الوثوق بوجود هكذا كمون لدى دستويفسكي، في ذلك النوع من المثلية المستترة Latente Homosexualität ، في علاقاته مع الرجال وفي رقته الاستثنائية تجاه غرمائه في الحب، وفي تفهمه المميز لمواقف يمكن تفسيرها فقط في ظل المثلية المُزاحة، كما تدل الكثير من آثاره الأدبية.
     آسف إن كان هذا التفسير في نظرات الحب والكره تجاه الأب وتحولاتها بتأثير تهديدات الخصاء، غير قابل للتصديق وغير مذوقة بالنسبة للقارئ غير المطلع على علم النفس التحليلي. وأتوقع أن تتلقى موضوعة "عقدة الخصاء" الرفض الأشد، لكني أزعم أن خبرات علم النفس التحليلي ترفع تحديدا هذه الموضوعة عن كل شك، وتقدم لنا فيها مفتاح كل حالات العصاب، وهذا ما سنحاول الكشف عنه في ما يسمى ب"صرع" كاتبنا. لكن الأمور التي تتحكم في حياتنا النفسية اللاواعية غريبة جدا على وعينا، ولم يُغرَف حتى الآن من كل عواقب كره الأب في عقدة أوديب، فالجديد الذي يضاف، هو أن التماهي في الأب يحجز له مكانا دائما في الأنا. تتقبله الأنا، لكنه يفرض نفسه كسلطة استثنائية على محتوياتها الأخرى، نسميها إذا الأنا الأعلى، وإليها، وريثة تأثيرات الوالدين، نرد أهم الوظائف.
           إذا كان الأب قاسيا، عنيفا، مرعبا، تأخذ عنه الأنا الأعلى هذه الصفات، وفي نسبتها إلى الأنا، تتكرس السلبية التي وجب أصلا كبتها. غدت الأنا الأعلى سادية، ستغدو الأنا مازوخية، أي أنثوية سالبة، وتنشأ حاجة ملحة إلى العقاب في الأنا التي تستسلم للقدر جزئيا وتجد الرضى في سوء معاملة الأنا الأعلى (الشعور بالذنب). كل عقوبة هي الخصاء وتحقيق للنظرات السلبية السالفة تجاه الأب، والقدر في النتيجة ليس إلا إسقاطا لاحقا على الأب.
     لابد أن السلوك الطبيعي  يمر بمراحل شبيهة بالسلوك الشاذ في طور تكون الوجدان، لكننا لم نتمكن حتى الآن من وضع الحدود بينهما. هنا يلاحظ المرء أن النصيب الأكبر في التركيبة السلبية يعود على الأنثوية المكبوتة. علاوة عليه، يجب أن يتبين لنا، كعامل براني، إن كان الأب المرهوب عنيفا بصورة استثنائية حقا، ما يصدق على حالة دستويفسكي. وسنعيد حقيقة شعوره الاستثنائي بالذنب، وطريقة حياته المازوخية على التركيبة الأنثوية فيه. سنصوغ دستويفسكي كالتالي: شخصية تتمتع بكمون خناثي استثنائي يدافع عن نفسه بقوة استثنائية، ضد أب استثنائي القسوة، هكذا نضيف هذه الخصلة الخنثوية إلى الخصال التي تشكل كيان دستويفسكي. بهذا، فإننا نفهم الأعراض المبكرة "لنوبات الموت" على أنها تماه للأنا في الأب تسمح به الأنا الأعلى عقابا. أردت قتل الأب لتكون أنت الأب. ها أنت الآن الأب، لكن الأب الميت. وهذه هي الأوالية المعروفة للأعراض الهستيرية. بالمقابل يقتلك الأب الآن؛ إن عَرَض الموت يمثل بالنسبة للأنا إرضاء فانتازياً للرغبة الذكورية ومازوخيا في الآن ذاته، وبالنسبة للأنا الأعلى فإنه يمثل إرضاء عقابيا، إذا إرضاء ساديا. فالأنا والأنا الأعلى يتابعان معا لعب دور الأب، هذا يعني، إن التناسب بين الفرد وموضوعة الأب عندما اكتمل محتواه- تحول إلى تناسب بين الأنا والأنا الأعلى، سيناريو جديد على مسرح آخر؛ تنطفئ ردود الفعل البدائية لعقدة أوديب إذا لم يتابع الواقع تغذيتها، لكن سمة الأب تبقى هي ذاتها، لا بل تسوء بمرور الأعوام، وهكذا يستمر أيضا كره دستويفسكي له وتستمر الرغبة في موت هذا الأب الغاضب. ينشأ الخطر إذا حقق الواقع تلك الرغبات الدفينة. ستقوى التدابير الدفاعية إن غدت الفانتازيا واقعا. والآن تأخذ نوبات دستويفسكي شكل الصرع، ويقينا أنها ما زالت تعني التماهي في الأب عقابا، لكنها أصبحت مرعبة كموت الأب المهول ذاته. والمضامين الأخرى التي تضمنتها، خاصة منها الجنسية، تبقى في حكم التخمين.
       الغريب أن تعاش في تلك البرهة السابقة للنوبة Aura  حالة من الغبطة المطلقة. لابد أنها تثبت النصر والتحرر لحظة بشرى الموت، لكن العقوبة القاسية تعقب تلك البرهة. لقد خمنا التعاقب بين النصر والحداد، بين الفرح والحزن لدى الإخوة في القطيع البشري الوحشي، ونلاحظ تكراره في طقس القربان المقدس. إذا حق أن فترة العقوبة التي قضاها دستويفسكي في سيبيريا خلت من نوبات الصرع، فسيؤكد هذا أن النوبات كانت عقوبة لا يحتاجها بعد، فقد أنزل العقاب بشكل آخر، وهذا مما لا يمكن البرهان عليه. لكن كل سنوات الذل والمهانة التي قضاها دستويفسكي في السجن تفسر بشكل أوضح ضرورة العقاب لاقتصاد نفسه. إن الحكم على دستويفسكي جانيا لم يكن محقا، وكان هو يعلم ذلكن لكنه تقبل العقاب من الأب القيصر، تعويضا عن العقاب الذي جناه على إثمه بحق الأب الحقيقي. لقد ترك نفسه لعقاب ممثل الأب عوضا عن العقوبة الذاتية؛ وهنا نلقي نظرة على التبرير السيكولوجي للعقاب الذي يعلقه المجتمع، فالحق أن مجموعات كبيرة من الجناة تتشوق إلى العقوبة، فأناها الأعلى تتطلبها وهي بهذا توفر على نفسها العقوبة الذاتية. من يعلم معنى تحولات الأعراض الهستيرية، سيدرك أننا لن نحاول هنا التبحر في مغزى نوبات دستويفسكي أكثر من هذه المقدمة[4]، يكفي أن نعلم أن معناها الأصلي لم يتغير بعد كل التراكمات اللاحقة. يمكنننا القول أن دستويفسكي لم يتحرر قط من عذاب الضمير الناتج عن الرغبة في قتل الأب، وقد حدد هذا أيضا علاقته بالمستويين الآخرين، معياري نسبية الأب، سلطة الدولة والإيمان بالإله. على المستوى الأول توصل دستويفسكي للخضوع الكامل للأب القيصر، الذي قدم له على مستوى الواقع كوميديا القتل التي مثلتها غالبا نوبات الصرع، واليد العليا كانت هنا للكفارة. أما على المستوى الثاني فقد بقي لديه المزيد من الحرية،وحسب أنباء يمكن الوثوق بها، بقي دستويفسكي حتى آخر أنفاسه مترددا بين الإيمان والإلحاد، فقد منع عليه ذهنه العظيم أن يتجاهل تلك المصاعب الفكرية التي يقود إليها الإيمان. رغب في أن يجد في مثال المسيح مخرجا وتحريرا من الذنب وأن يستغل آلامه للعب دور المسيح، في تكرار فردي لعملية تاريخية، وإن لم يأخذ به إلى الحرية وأصبح رجعيا، فلأن ذنب الابن الذي يبنى عليه الحس الديني عموما، أخذ عنده قوة فوق فردية ولم يستطع حتى ذكاؤه المتوقد تجاوزه. هنا نعرض نفسنا لتهمة أننا نترك حياد التحليل وندس في شخصية دستويفسكي قيما ما من موقف منحاز، ينطلق من رؤية معينة، فالمحافظ سيتشيع للمفتش الكبير ويحكم على دستويفسكي بشكل آخر، وهذه التهمة محقة وللتخفيف من حدتها يمكن القول، يبدو إن عزم دستويفسكي يتحدد بالروادع الذهنية الناتجة عن العصاب.
      ليس من قبيل الصدفة أن تعالج ثلاثة من أروع الأعمال الأدبية في التاريخ الموضوع ذاته، موضوع قتل الأب: الملك أوديب لسوفوكليس، هاملت شكسبير والإخوة كارامازوف لدستويفسكي. والباعث على الجريمة، أي الخصام الجنسي في الأنثى، واضح تماما. العرض الأكثر وضوحا يتم في الدراما المستمدة من الأسطورة اليونانية. هنا ينفذ البطل الجريمة بنفسه، لكن العمل الأدبي غير ممكن دون تهوين وتورية، فيبدو إنه لا يمكن تحمل الاعتراف العاري بنية قتل الأب دون تمهيد تحليلي. يتم التهوين الذي لا محيد عنه في الدراما اليونانية بطريقة عبقرية. تُعرض بواعث البطل على الجريمة لدى الواقعة كحتمية قدرية، تُسقط على الواقع، فالبطل يرتكب الجريمة دون سبق نية و، كما يخيل، دون أي تأثير للأنثى، لكن يتم الكشف عن هذه الرابطة عندما يحظى بالملكة الأم بعد تكرار الفعل في الغول الذي يمثل الأب. ولما يُكشف ذنبه ويقر به، لا يحاول بعد التنصل منه معتمدا على الحتمية القدرية، بل يُعترف بالذنب ويعاقب عليه كذنب كامل. الأمر الذي يبدو غير عادل بالنسبة للمراقب، لكنه من وجهة نظر السيكولوجيا صحيح كامل الصحة؛ عرض الدراما الدراما الإنكليزية أقل مباشرة، فالبطل هنا لا يقوم بالجريمة بنفسه، بل يقوم بها آخر لا يمثل الفعل بالنسبة له جريمة قتل الأب، لذا لا يجب بعد إنكار دافع الخصام الجنسي المستنكر لدى الأنثى، ولا نلحظ عقدة أوديب لدى البطل إلا في أضواء منعكسة شفيفة، ذلك عندما نعلم أثر فعل الآخر فيه. عليه أن يثأر لأبيه ولكنه يجد نفسه، يا للعجب، غير قادر على الثأر. إننا ندرك أن شعوره بالذنب هو ما يشله، في إحدى السلوكيات العصابية المعتدلة يُزاح الشعور بالذنب على إدراك عجزه عن تحقيق الواجب، وهناك إشارات على أن البطل يستشعر هذا الذنب، كذنب فوق فردي. إنه يحتقر الآخرين ليس أقل من نفسه: "لكل ما اكتسب ومن ذا الذي يأمن الضربات"؛ في هذا الاتجاه تمضي رواية الروسي خطوة أبعد. هنا أيضا يقوم آخر بالقتل، لكنه آخر يقف في علاقته بالمغدور (البنوة) على قدم المساواة مع البطل ديميتري، الذي يُعترف عنده بباعث الخصام الجنسي، الآخر أخ يلصق به دستويفسكي ما يجدر ملاحظته- مرضه المزعوم ذاته، الصرع. كأنه يود الإقرار بأن المصروع، العصابي في داخلي، هو قاتل أب وهنا يأتي في المرافعة ذلك الاستهزاء المشهور بالسيكولوجيا، بأنها سلاح ذي حدين! مواربة عظيمة يجب فقط قلبها رأسا على عقب لنكتشف المعاني العميقة لوجهة النظر الدستويفسكية. ليست السيكولوجيا من يستحق السخرية، إنما مجريات التحقيق. وسيان من ارتكب الجريمة، فالمهم بالنسبة إلى السيكولوجيا، من تمناها في داخله، ومن رحب بها، ولهذا فإن جميع الأخوة متساوون في الذنب عدا شخصية اليوشا المتكلفة-: الغرائزي المستمتع، اللاادري الساخر والجاني المصروع. في الأخوة كارامازوف نجد مشهدا مهما لدستويفسكي: يتعرف الراهب زوسيما في ديميتري استعداده لقتل الأب فيسجد له! لا يمكن أن يكون هذا السجود تعبيرا عن الانبهار به، بل إنه يعني أن القديس يبتعد عن محاولة احتقار أو استفظاع القاتل، ولذا يتذلل إليه. لا حدود لتعاطف دستويفسكي مع الجاني، إنه يتجاوز مجرد الشفقة التي يستحقها تعيس الحظ ويذكرنا بهالة الخوف المقدس، التي أحيطت بالمصروعين والمضطربين روحيا في العصور القديمة. يكاد الجاني أن يكون مخلِّصا حمل على عاتقه الإثم الذي كان على الآخرين حمله. ليس علينا أن نقتل بعد أن قام هو بالقتل، بل علينا أن ندين له بالشكر، وإلا لكان علينا نحن أن نقتل. إنها ليست مجرد شفقة رفيقة، بل تماه على أساس النبضات القاتلة ذاتها، ونرجسية مؤجلة في الأصل. لا تستنكر القيمة الأخلاقية لهذا اللطف. ربما يكون أوالية الاشتراك اللطيف في إنسان آخر، يستشفها المراقب في هذه الحال المتطرفة للكاتب المسكون بوعي الذنب استشفافا. لاشك في أن هذا التعاطف المتماهي قد حدد نسيج دستويفسكي للأبد، لكنه عالج منطلق الجاني العام من منطلق الأنانية-، تناول الجاني السياسي والديني، قبل أن يعود في نهاية حياته إلى الجاني الأول، قاتل الأب، ويقدم فيه اعترافه الأدبي.
 ألقى نشر تركة دستويفسكي ويوميات زوجته، ضوءا ساطعا على مرحلة مهمة من حياته، أي الفترة التي قضاها في ألمانيا، وكان فيها مسكونا بالإدمان على القمار (دستويفسكي على مائدة الروليت)، نوبة لا تخفى كما اتفق الجميع- من الشهوانية المرضية. لا ينقص هذا الفعل الشاذ والشائن شيء من العقلنة، لقد وجد الشعور بالذنب كما هو الأمر غالبا- متنفسا ملموسا. احتاط دستويفسكي لتعليل إدمانه، أنه بأرباحه سيتمكن من العودة إلى روسيا دون أن يلقي به دائنوه في السجن، لكن هذه كانت مجرد حجة، فلقد كان دستويفسكي على مقدار كاف من حدة النظر ليعرف، ومقدار كاف من الصراحة، ليقر بذلك. كان يعلم أن السبب الرئيسي لإدمانه هو اللعب بذاته ولذاته[5] ، فكل تفاصيل سلوكه الغرائزي اللامعقول تبرهن على ذلك، الشيء الآخر، أنه ما كان ليهدأ قبل أن يخسر كل شيء. كان اللعب سبيلا لعقاب الذات، فكم مرة أقسم بشرفه لزوجته الشابة ألا يلعب بعد، أو على الأقل ألا يلعب اليوم بعد، وحنث بعهده على حد قولها- دائما. ولما يأخذ بنفسه وبها إلى التهلكة، كان ينال إرضاء مرضيا آخر، كان يشتم نفسه أمامها، يتذلل ويطالبها باحتقاره والندم على الزواج منه، هو الآثم الأبدي، وبعد تفريغ الضمير هذا، كانت اللعبة ذاتها تتكرر في اليوم التالي. ثم إن المرأة الشابة تعودت هذه الحلقة المفرغة، لأنها لاحظت أن المنقذ الوحيد، الإنتاج الأدبي، لم يمض أفضل إلا بعد أن كانوا قد خسروا كل شيء، ورهنوا آخر ممتلكاتهم، وطبعا لم تكن تدرك الصلة بين الأمرين. عندما كان يتم إرضاء الشعور بالذنب عبر العقاب الذي يعلقه بذاته على ذاته، كانت روادع العمل تتراخى، فيسمح لنفسه بالمضي خطوة أخرى في سبيل النجاح[6].
        أما الآثار التي تتركها الطفولة المهتزة على حتمية اللعب، فتتضح لنا بسهولة اعتمادا على عمل الكاتب الشاب شتيفان زفايغ، الذي قدم بدوره دراسة عن دستويفسكي (المعلمون الثلاثة). يروي زفايغ في مجموعته الثلاثية (تشتت المشاعر) قصة بعنوان (أربع وعشرين ساعة من حياة امرأة). يريد هذا العمل أن يبين استهتار الأنثى وكيف لها أن تقوم، تحت انطباعات غير منتظرة، بتجاوزات مفاجئة لها نفسها، لكن الحكاية تروي أكثر من ذلك. إنها تعرض، دون تلك النظرة الاعتذارية، شيئا آخر، شيئا إنسانيا عاما، بل حتى ذكوريا، هذا إذا وضعها المرء تحت منظار التفسير التحليلي، وهكذا تفسير بيِّن بحيث لا يمكن رفضه، لكنه غريب حتى على المؤلف، المعروف لدي، وهذا ما يميز العمل الأدبي، رغم تشابك الكثير من التفاصيل التي تبرهن على هذا التفسير تحديدا. في هذا العمل تروي سيدة وقور، متقدمة في السن، حدثا جرى معها قبل عشرين عاما. أرمل وأم لولدين لا يحتاجانها بعد، أدارت لها الحياة ظهرها، تدخل خلال إحدى رحلاتها الفارغة في سن الثانية والأربعين إلى صالة القمار في كازينو موناكو وتُسحر، من بين كل الانطباعات المدهشة، بمرأى يدين تفضحان كل أحاسيس المقامر تعيس الحظ، باستقامة مهتزة وتركيز بالغ، هما يدا فتى وسيم يعطيه الكاتب وكأنما صدفة، عمر ولدها الأول-، يترك الصالة في قنوط عميق بعد أن خسر كل شيء، لينهي حياته الكئيبة في الحديقة المجاورة. يدفعها عطف مبهم على اللحاق به وبذل الجهود لمنعه من الانتحار، يحسبها واحدة من تلك النساء المتطفلات، ويريد طردها، لكنها تصر على البقاء وترى نفسها مجبرة بكل بداهة على مشاركته غرفته في الفندق، ومن ثم فراشه. بعد ليلة الحب المرتجلة هذه، تدع الفتى الذي يبدو عليه الهدوء، يقسم لها باحتفالية ألا يلعب بعد، وتموله للسفر إلى البيت وتعده باللقاء في المحطة قبل انطلاق القطار، ثم يتدفق فيها عطف شديد وتريد التضحية بكل شيء من أجل المحافظة عليه، فتقرر السفر معه عوضا عن وداعه. تمنعها ظروف غير ملائمة من الوصول إلى المحطة في الموعد المضروب، فتفوت القطار. وفي حنينها إلى الفتى الضائع تزور صالة القمار من جديد، وهناك تجد تلك اليدين اللتين أيقظتا فيها الشفقة! لقد عاد الضال إلى اللعب. تذكره المرأة بقسمه، يطردها ويقذف في وجهها النقود التي أرادت تحريره بها. تضطر في شدة الحياء إلى الهرب من الصالة، وتعلم فيما بعد، إنها لم تفلح في إنقاذه من الانتحار.
    هذه القصة المروية بروعة، والمعللة بدقة، جديرة بالخلود بذاتها، وقادرة على توليد انطباعات قوية لدى القارئ. لكن التحليل يعلمنا أن ابتكارها يعتمد على صخرة قوية من فنتازيا الرغبات في فترة المراهقة، تلك التي يتذكرها البعض بوعي كامل. هذه الفنتازيا تقول: لو تأخذ الأم بيد الفتى لتقوده في الحياة الجنسية، فتنقذه من المخاطر المرعبة للاستمناء. ولكل أدبيات الخلاص المنبع ذاته. يعوض "عبء" الاستمناء بعبء الإدمان على القمار، والتركيز على الحركة الشهوانية لليدين، يفضح هذه الإزاحة. الحقيقة أن حدة اللعب مكافئ لحتمية الاستمناء السابقة، فإن إعمال اليدين على العضو الجنسي في علية الأطفال لم يسمى بكلمة غير "اللعب"، والمحاولات الطاغية والأيمان المقدسة المحنث بها دائما- بعدم الإقدام عليه مرة أخرى، الشهوة المخدرة وعذاب الضمير، لأن المرء ينحدر إلى الحضيض (الانتحار)، كل هذا يستمر في محاولات التعويض تلك. يروى عمل زفايغ من موقف الأم، وليس الابن. فيجوز أن يفكر الابن  بتزلف هكذا: لو علمت الأم أية مخاطر يعرضني إليها الاستمناء، لأخذت بيدي إلى ممارسة كل تلك الرقة والحنان على جسدها هي، لتنقذني من مخاطره. إن مساواة الأم بالبغي في عمل زفايغ ما يقوم به الفتى- تنتمي إلى الفنتازيا ذاتها، إنها تجعل ما لا يمكن الحصول عليه، سهل المنال، وسوء الضمير الذي يرافق هذه الفنتازيا، يتخلل نهاية القصة. من الجدير بالملاحظة كيف يحاول شكل القصة مواربة مغزاها التحليلي، فمن المتنازع فيه، أن تكون الطفرات الفجائية والغامضة تسيطر على حياة المرأة الجنسية، والتحليل يعطي دلائل أكثر على السببية في التصرف المفاجئ للمرأة، المولية ظهرها للحب حتى الآن، الوفية لذكرى زوجها المفقود والتي تدرعت حتى الآن ضد كل الرغبات المشابهة، لكنها لم تنجو كأم- من التحوير اللاواعي للحب على الابن هنا تأخذ فنتازيا الابن الحق في طرفها- وفي هذه اللحظة المارقة، يستطيع القدر أن يهزمها. إذا كان الإدمان على القمار، بكل الصراعات الفاشلة للتخلي عنه، وبكل فرص العقاب الذاتي، تكرارا لحتمية الاستمناء، فلا غرو في أن يحتل فسحة واسعة في حياة دستويفسكي. إننا لا نجد حالة واحدة من العصاب الشائك، لم يلعب فيها الإرضاء الذاتي في المراحل المبكرة من الحياة والمراهقة، دورا كبيرا. والعلاقة بين محاولات كبته والخوف من الأب معروفة جدا وتحتاج المزيد من الذكر.



[1] راجع "دستوفسكي المجهول" 1926. شتيفان زفايغ: (لا توقفه أسوار الأخلاق الشعبية ولا أحد يعلم إلى أي مدى تخطى حدود القانون في حياته وكم من الغرائز الجنائية لأبطاله، كانت كامنة فيه)، "المعلمون الثلاثة"، 1920، حول العلاقات الوطيدة بين شخصيات دستويفسكي وتجاربه الشخصية، راجع إفاضة رينيه فولوب-موللر في مقدمته ل"دستويفسكي على مائدة القمار" 1925 التي يعلق فيها على نيكولاي سترا خوف.
[2] قارن مع مقالة "مرض دستويفسكي المقدس". رينيه فولوب-موللر في "المعرفة والحياة" الأجزاء 19-20 عام 1924. إن ما بلفت الانتباه بشكل خاص، أن حدث في طفولة الكاتب "شيء مرعب، معذب لا يمكن نسيانه"، ترجع إليه العلامات الأولى لمعاناته (سوفورين في مقال في نوفوي فريميا 1881 بعد الاقتباس في المقدمة لـ"دستويفسكي على مائدة القمار"). وكذلك اورست ميلر في "كتابات دستويفسكي الخاصة عن حياته": "هناك في الواقع مقولة استثنائية عن مرض فيودور ميخائيلوفيتش، تتناول شبابه المبكر وتربط بين المرض وحدث تراجيدي في حياة عائلة دستويفسكي، رغم أن هذا الادعاء وصل إلى سمعي من شخص قريب جدا من فيودور ميخائيلوفيتش، إلا أنني لا أستطيع أن أورده بدقة وتفصيل، لأني لم أحصل على أي تأكيد لهذه الإشاعة" ص 140. أما باحثوا العصاب وكتاب السيرة فلن يشكروه على هذا الكتمان.
[3] أغلب المعطيات، من بينها معلومات دستويفسكي نفسه، تزعم أن المرض أخذ شكله الصرعي النهائي أثناء قضاء فترة العقوبة في سيبيريا. لكن لدينا سببا لعدم الثقة بالمعلومة البيوغرافية الذاتية، فالتجارب تدل على تزويرها للذكريات، التزوير الذي نحاول به تمزيق العلاقات السببية غير المرغوب فيها. لكن من المؤكد أن الإقامة في الزنزانة السيبيرية قد غيرت حال مرض دستويفسكي بشدة. راجع "مرض دستويفسكي المقدس" ص 1186.
[4] -أنظر الطوطم والتابو. أفضل المعلومات حول مغزى ومضامين نوباته، يعطيها دستويفسكي نفسه عندما يقول لصديقه ستراخوف، عن سبب هيجانه وقنوطه أنه يظهر لنفسه مجرما وأنه لا يتخلص من الشعور بعبء ذنب غير معروف إليه، بأنه ارتكب عملا فظيعا يضغط على صدره. "مرض دستويفسكي المقدس" ص 1188. يرى علم النفس التحليلي في هكذا شكوى بعضا من الإدراك "للواقع السيكولوجي"، ويحاول توضيح الذنب المجهول للوعي.
[5] -le jou pour le jou ، اللعب للعب. كتب في إحدى رسائله: "أقسم لكم، القضية لا تتعلق بالطمع رغم أني والحق يقال- أحتاج النقود أكثر ما أحتاج".
[6] -"كان يبقى على مائدة القمار حتى يخسر كل شيء، حتى يقضى عليه نهائيا، وعندما كان الشر يكتمل، كان الشيطان يختفي من روحه ويترك المجال لجنية الإبداع". رينيه فولوب-موللر: "دستويفسكي على مائدة القمار" ص1036.